بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة السيرة والتاريخ
تاريخ الخلفاء للسيوطيي
أبو بكر الصديق رضي الله عنه [ 1 ]
أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم.
اسمه : عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في مرة
قال النووي في تهذيبه : و ما ذكرناه من أن اسم أبي بكر الصديق : عبد الله هو الصحيح المشهور و قيل : اسمه عتيق و الصواب الذي عليه كافة العلماء أن عتيقا لقب له لا اسم و لقب عتيقا لعتقه من النار كما ورد في حديث رواه الترمذي و قيل : لعتاقة وجهه ـ أي حسنه و جماله ـ قاله مصعب بن الزبير و الليث ابن سعد و جماعة و قيل : لأنه لم يكن في نسبه شيء يعاب به
قال مصعب بن الزبير و غيره : و أجمعت الأمة على تسميته بالصديق لأنه بادر إلى تصديق رسول الله صلى الله عليه و سلم و لازم الصدق فلم تقع منه هناة ما و لا وقفة في حالة من الأحوال و كانت له في الإسلام المواقف الرفيعة منها قصته يوم ليلة الإسراء و ثباته و جوابه للكفار في ذلك و هجرته مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و ترك عياله و أطفاله و ملازمته في الغار و سائر الطريق ثم كلامه يوم بدر و يوم الحديبية حين اشتبه على غيره الأمر في تأخر دخول مكة ثم بكاؤه حين قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن عبدا خيره الله بين الدنيا و الآخرة فاختار الآخرة ثم ثباته يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم و خطبته الناس و تسكينهم ثم قيامه في قضية البيعة لمصلحة المسلمين ثم اهتمامه و ثباته في بعث جيش أسامة بن زيد إلى الشام و تصميمه في ذلك ثم قيامه في قتال أهل الردة و مناظرته للصحابة حتى حجهم بالدلائل و شرح الله صدورهم لما شرح له صدره من الحق و هو قتال أهل الردة ثم تجهيزه الجيوش إلى الشام لفتوحه و إمدادهم بالأمداد ثم ختم ذلك بمهم من أحسن مناقبه و أجل فضائله و هو استخلافه على المسلمين عمر رضي الله عنه و تفرسه فيه و وصيته له و استيداعه الله الأمة فخلفه الله عز و جل فيهم أحسن الخلافة و ظهر لعمر الذي هو حسنة من حسناته و واحدة من فعلاته تمهيد الإسلام و إعزاز الدين و تصديق وعد الله تعالى بأنه يظهره على الدين كله و كم للصديق من مناقب و مواقف و فضائل لا تحصى ؟ هذا كلام النووي
و أقول : قد أردت أن أبسط ترجمة الصديق بعض البسط ذاكرا فيه جملة كثيرة مما و قفت عليه من حالة و أرتب ذلك فصولا
● [ اسمه و لقبه ] ●تقدمت الإشارة إلى ذلك قال ابن كثير : اتفقوا على أن اسمه عبد الله بن عثمان إلا ما روى ابن سعد عن ابن سيرين أن اسمه عتيق و الصحيح أنه لقبه ثم اختلف في وقت تلقيبه به و في سببه فقيل : لعتاقة وجهه ـ أي لجماله ـ قاله الليث بن سعد و أحمد بن حنبل و ابن معين و غيرهم و قال ابو نعيم الفضل بن دكين : لقدمه في الخير و قيل : لعتاقة نسبه ـ أي : طهارته إذ لم يكن في نسبه شيء يعاب به ـ و قيل : سمي به أولا ثم سمي بعبد الله و روى الطبراني عن القاسم بن محمد أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن اسم أبي بكر فقالت : عبد الله فقال : إن الناس يقولون عتيق قالت : إن أبا قحافة كان له ثلاث أولاد سماهم : عتيقا و معتقا و معيتقا و أخرج ابن منده و ابن عساكر عن موسى بن طلحة قال : قلت لأبي طلحة : لم سمي أبو بكر عتيقا ؟ قال : كانت أمه لا يعيش لها ولد فلما ولدته استقبلت به البيت ثم قالت : اللهم إن هذا عتيق من الموت فهبه لي و أخرج الطبراني عن ابن عباس قال : إنما سمي عتيقا لحسن وجهه و أخرج ابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها قالت : اسم أبي بكر الذي سماه به أهله عبد الله و لكن غلب عليه اسم عتيق و في لفظ : و لكن النبي صلى الله عليه و سلم [ سماه عتيقا ] و أخرج أبو يعلي في مسنده و ابن سعد و الحاكم و صححه عن عائشة رضي الله عنها قالت : و الله إني لفي بيتي ذات يوم و رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه في الفناء و الستر بيني و بينهم إذ أقبل أبو بكر فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من سره أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى أبي بكر ] و إن اسمه الذي سماه أهله عبد الله فغلب عليه اسم عتيق و أخرج الترمذي و الحاكم [ عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر دخل على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا أبا بكر أنت عتيق الله من النار ] فمن يومئذ سمي عتيقا و أخرج البزار و الطبراني بسند جيد [ عن عبد الله بن الزبير قال كان اسم أبي بكر عبد الله فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنت عتيق من النار ] فسمي عتيقا
و أما الصديق فقيل : كان يلقب به في الجاهلية لما عرف منه من الصدق ذكره ابن مسدي و قيل : لمبادرته إلى تصديق رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما كان يخبر به قال ابن إسحاق عن الحسن البصري و قتادة : و أول ما اشتهر به صبيحة الإسراء و أخرج الحاكم في المستدرك عن عائشة رضي الله عنها قالت : جاء المشركون إلى أبي بكر فقالوا : هل لك إلى صاحبك ؟ يزعم أن أسري به الليلة إلى بيت المقدس قال : أو قال ذلك ؟ قالوا : نعم فقال : لقد صدق إني لأصدقه بأبعد من ذلك بخبر السماء غدوة و روحة فلذلك سمي الصديق إسناده جيد و قد ورد ذلك من حديث أنس و أبي هريرة أسندهما ابن عساكر و أم هانئ أخرجه الطبراني
قال سعيد بن منصور في سننه : [ حدثنا أبو معشر عن أبي وهب مولى أبي هريرة قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة أسري به فكان بذي طوى قال يا جبريل : إن قومي لا يصدقوني قال : يصدقك أبو بكر و هو الصديق ] و أخرجه الطبراني في الأوسط موصولا عن أبي وهب عن أبي هريرة
و أخرج الحاكم في المستدرك عن النزال بن سبرة قال : قلنا لعلي : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن أبي بكر قال : ذاك امرؤ سماه الله الصديق على لسان جبريل و على لسان محمد كان خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم على الصلاة رضيه لديننا فرضيناه لدنيانا إسناده جيد
و أخرج الدار قطني و الحاكم عن أبي يحيى قال : لا أحصي كم سمعت عليا يقول على المنبر : إن الله سمى أبا بكر على لسان نبيه صديقا
و أخرجه الطبراني بسند جيد صحيح عن حكيم بن سعد قال : سمعت عليا يقول و يحلف لأنزل الله اسم أبي بكر من السماء الصديق و في حديث أحد [ أسكن فإنما عليك نبي و صديق و شهيدان ]
و أم أبي بكر بنت عم أبيه اسمها : سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب و تكنى أم الخير قاله الزهري أخرجه ابن عساكر
● [ مولده و منشؤه ] ●ولد بعد مولد النبي صلى الله عليه و سلم بسنتين و أشهر فإنه مات و له ثلاثة و ستون سنة
قال ابن كثير : و أما ما أخرجه خليفة بن الخياط عن يزيد بن الأصم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأبي بكر : [ أنا أكبر أو أنت ؟ ] قال : أنت أكبر و أنا أسن منك فهو مرسل غريب جدا و المشهور خلافة و إنما صح ذلك عن العباس
و كان منشؤه بمكة لا يخرج منها إلا لتجارة و كان ذا مال جزيل في قومه و مروءة تامة و إحسان و تفضل فيهم كما قال ابن الدغنة : إنك لتصل الرحم و تصدق الحديث و تكسب المعدوم و تحمل الكل و تعين على نوائب الدهر و تقري الضيف
قال النووي : و كان من رؤساء قريش في الجاهلية و أهل مشاورتهم و محببا فيهم و أعلم لمعالمهم فلما جاء الإسلام آثره على ما سواه و دخل فيه أكمل دخول و أخرج الزبير بن بكار و ابن عساكر عن معروف بن خربوذ قال : إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أحد عشر من قريش اتصل بهم شرف الجاهلية و الإسلام فكان إليه أمر الديات و الغرم و ذلك أن قريشا لم يكن لهم ملك ترجع الأمور كلها إليه بل كان في كل قبيلة ولاية عامة تكون لرئيسها فكانت في بني هاشم السقاية و الرفادة و معنى ذلك أنه لا يأكل و لا يشرب أحد إلا من طعامهم و شرابهم و كانت في بني عبد الدار : الحجابة و اللواء و الندوة ـ أي : لا يدخل البيت أحد إلا بإذنهم و إذا عقدت قريش راية حرب عقدها لهم بنو عبد الدار و إذا اجتمعوا لأمر إبراما أو نقضا لا يكون اجتماعهم إلا بدار الندوة و لا ينفذ إلا بها و كانت لبني عبد الدار
● [ كان أعف الناس في الجاهلية ] ●اخرج ابن عساكر بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت : و الله ما قال أبو بكر شعرا قط في جاهلية و لا إسلام و لقد ترك هو و عثمان شرب الخمر في الجاهلية
و أخرجه أبو نعيم بسند جيد عنها قالت : لقد كان حرم أبو بكر الخمر على نفسه في الجاهلية
و أخرج ابن عساكر عن عبد الله بن الزبير قال : ما قال أبو بكر شعرا قط
و أخرج ابن عساكر عن أبي العالية الرياحي قال : قيل لأبي بكر الصديق في مجمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل شربت الخمر في الجاهلية ؟ فقال : أعوذ بالله فقيل : و لم ؟
قال : كنت أصون عرضي و أحفظ مروءتي فإن من شرب الخمر كان مضيعا في عرضه و مروءته قال : فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ صدق أبو بكر صدق أبو بكر مرتين ] مرسل غريب سندا و متنا
● [ فصل في صفته رضي الله عنه ] ●أخرج ابن سعد عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قال لها : صفي لنا أبا بكر فقالت : رجل أبيض نحيف خفيف العارضين أجنأ لا يستمسك إزاره يسترخي عن حقويه معروق الوجه غائر العينين ناتئ الجبهة عاري الأشاجع هذه صفته
و أخرج عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر كان يخضب بالحناء و الكتم
و أخرج عن أنس قال : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة و ليس في أصحابه أشمط غير أبي بكر فلفها بالحناء و الكتم
● [ إسلامه ] ●أخرج الترمذي و ابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال : قال أبو بكر : ألست أحق الناس بها ؟ أي الخلافة ألست أول من أسلم ؟ ألست صاحب كذا ؟ ألست صاحب كذا ؟
وأخرج ابن عساكر من طريق الحارث عن علي رضي الله عنه قال : أول من أسلم من الرجال أبو بكر
و أخرج ابن أبي خيثمة بسند صحيح عن زيد بن أرقم قال : أول من صلى مع النبي صلى الله عليه و سلم أبو بكر
و أخرج ابن سعد عن أبي أروى الدوسي الصحابي رضي الله عنه قال : أول من أسلم أبو بكر الصديق
و أخرج الطبراني في الكبير و عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن الشعبي قال : سألت ابن عباس أي الناس كان أول إسلاما ؟ قال : أبو بكر الصديق ألم تسمع قول حسان:
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة . فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها و أعدلها . إلا النبي و أوفاها بما حملا
والثاني التالي المحمود مشهده . و أول الناس منهم صدق الرسلاو أخرج أبو نعيم عن فرات بن السائب : قال : سألت ميمون بن مهران قلت : علي أفضل عندك أم أبو بكر و عمر ؟ قال : فارتعد حتى سقطت عصاه من يده ثم قال : ما كنت أ ظن أن أبقى إلى زمان يعدل بهما لله درهما ! كانا رأس الإسلام قلت : فأبو بكر كان أول إسلاما أم علي ؟ قال : و الله لقد آمن أبو بكر بالنبي صلى الله عليه و سلم زمن بحيرا الراهب حين مر به و اختلف فيما بينه و بين خديجة حتى أنكحها إياه و ذلك كله قبل أن يولد علي و قد قال : إنه أول من أسلم خلائق من الصحابة و التابعين و غيرهم بل ادعى بعضهم الإجماع عليه
وقيل : أول من أسلم علي و قيل : خديجة و جمع بين الأقوال بأن أبا بكر أول من أسلم من الرجال و علي أول من أسلم من الصبيان و خديجة أول من أسلمت من النساء و أول من ذكر هذا الجمع الإمام أبو حنيفة رحمه الله أخرجه عنه
وأخرج ابن أبي شيبة و ابن عساكر عن سالم بن أبي الجعد قال : قلت لمحمد ابن الحنفية : هل كان أبو بكر أول القوم إسلاما ؟ قال : لا قلت : فبم علا أبو بكر و سبق حتى لا يذكر أحد غير أبي بكر ؟ قال : لأنه كان أفضلهم لإسلاما من حين أسلم حتى لحق بربه
و أخرج ابن عساكر بسند جيد عن محمد بن سعد بن أبي وقاص أنه قال لأبيه سعد:
أكان أبو بكر الصديق أولكم إسلاما ؟ قال : لا و لكنه أسلم قبله أكثر من خمسة و لكن كان خيرنا إسلاما
قال ابن كثير : و الظاهر أن أهل بيته صلى الله عليه و سلم آمنوا قبل كل أحد : زوجته خديجة و مولاه زيد و زوجة زيد أم أيمن و علي و ورقة انتهى
و أخرج ابن عساكر عن عيسى بن يزيد قال : قال أبو بكر الصديق : كنت جالسا بفناء الكعبة و كان زيد بن عمرو بن نفيل قاعدا فمر به أمية بن أبي الصلت فقال : كيف أصبحت يا باغي الخير ؟ قال : بخير قال : و هل وجدت ؟ قال : لا فقال:
كل دين يوم القيامة إلا . ما قضى الله في الحقيقة بورأما إن هذا النبي الذي ينتظر منا أو منكم قال : و لم أكن سمعت قبل ذلك بنبي ينتظر و يبعث قال : فخرجت إلى ورقة بن نوفل و كان كثير النظر إلى السماء كثير همهمة الصدر فاستوقفه ثم قصصت عليه الحديث فقال : نعم يا بن أخي إنا أهل الكتب و العلوم إلا أن هذا النبي الذي ينتظر من أوسط العرب نسبا ـ ولي علم بالنسب ـ و قومك أوسط العرب نسبا قلت : يا عم و ما يقول النبي ؟ قال : يقول ما قيل له إلا أنه لا يظلم و لا يظلم و لا يظالم فلما بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم آمنت به و صدقته
و قال ابن إسحاق : [ حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة و تردد و نظر إلا أبا بكر ما عتم عنه حين ذكرته و ما تردد فيه ] عتم : أي لبث
قال البيهقي : و هذا لأنه كان يرى دلائل نبوة رسول الله صلى الله عليه و سلم و يسمع آثاره قبل دعوته فحين دعاه كان قد سبق له فيه تفكر و نظر فأسلم في الحال ثم أخرج عن أبي ميسرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا برز سمع من يناديه : يا محمد فإذا سمع الصوت ولى هاربا فأسر ذلك إلى أبي بكر و كان صديقا له في الجاهلية
و أخرج أبو نعيم و ابن عساكر [ عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما كلمت في الإسلام أحدا إلا أبى علي و راجعني الكلام إلا ابن أبي قحافة فإني لم أكلمه في شيء إلا قبله و استقام عليه ] و أخرج البخاري [ عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل أنتم تاركون لي صاحبي ؟ هل أنتم تاركون لي صاحبي إني قلت : أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا فقلتم : كذبت و قال أبو بكر : صدقت ]
● [ صحبته و مشاهده ] ●قال العلماء : صحب أبو بكر النبي صلى الله عليه و سلم من حين أسلم إلى حين توفي لم يفارقه سفرا و لا حضرا إلا فيما أذن له صلى الله عليه و سلم في الخروج فيه من حج و غزو و شهد معه المشاهد كلها و هاجر معه و ترك عياله و أولاده رغبة في الله و رسوله صلى الله عليه و سلم و هو رفيقه في الغار قال تعالى : { ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } و قام بنصر رسول الله صلى الله عليه و سلم في غير موضع و له الآثار الجميلة في المشاهد وثبت يوم أحد و يوم حنين و قد فر الناس كما سيأتي في فصل شجاعته
أخرج ابن عساكر عن أبي هريرة قال : تباشرت الملائكة يوم بدر فقالوا : أما ترون الصديق مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في العريش
و أخرج أبو يعلي و الحاكم و أحمد [ عن علي قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم بدر و لأبي بكر : مع أحدكما جبريل و مع الآخر ميكائيل ]
و أخرج ابن عساكر عن ابن سيرين أن عبد الرحمن بن أبي بكر كان بوم بدر مع المشركين فلما أسلم قال لأبيه : لقد اهدفت لي يوم بدر فانصرفت عنك و لم أقتلك فقال أبو بكر : لكنك لو أهدفت لي لم أنصرف عنك
قال ابن قتيبة : معنى أهدفت أشرفت و منه قيل للبناء المرتفع : هدف
● [ شجاعته ] ●أخرج البزار في مسنده عن علي أنه قال : أخبروني من أشجع الناس ؟ فقالوا : أنت قال : أما إني ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه و لكن اخبروني بأشجع الناس ؟ قالوا : لا نعلم فمن ؟ قال : أبو بكر إنه لما كان يوم بدر فجعلنا لرسول الله صلى الله عليه و سلم عريشا فقلنا : من يكون مع رسول الله صلى الله عليه و سلم لئلا يهوي إليه أحد من المشركين ؟ فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهرا بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يهوي إليه أحد إلا هوى إليه فهو أشجع الناس قال علي رضي الله عنه : و لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم و أخذته قريش فهذا يجبأه و هذا يتلتله و هم يقولون : أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا ؟ قال : فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا و يجبأ هذا و يتلتل هذا و هو يقول : ويلكم ! أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ثم رفع علي بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته ثم قال : أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر ؟ فسكت القوم فقال : ألا تجيبونني ؟ فو الله لساعة من أبي بكر خير من ألف ساعة من مثل مؤمن آل فرعون ذاك رجل يكتم إيمانه و هذا رجل أعلن إيمانه
و أخرج البخاري عن عروة بن الزبير قال : سألت عبد الله بن عمرو بن العاص عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم و هو يصلي فوضع رداءه في عنقه فخنقه به خنقا شديدا فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه فقال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله و قد جاءكم بالبينات من ربكم ؟
و أخرج الهيثم بن كليب في مسنده عن أبي بكر قال : لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فكنت أول من فاء و سيأتي تتمة الحديث في مسند ما رواه
و أخرج ابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فكانوا ثمانية و ثلاثين رجلا ألح أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه و سلم في الظهور فقال : يا أبا بكر : إنا قليل فلم يزل أبو بكر يلح على رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه و سلم و تفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته و قام أبو بكر في الناس خطيبا فكان أول خطيب دعا إلى الله و إلى رسوله و ثار المشركون على أبي بكر و على المسلمين و ضربوا في نواحي المسجد ضربا شديدا و سيأتي تتمة الحديث في ترجمة عمر رضي الله عنه
و أخرج ابن عساكر عن علي رضي الله عنه قال : لما أسلم أبو بكر أظهر إسلامه و دعا إلى الله و إلى رسوله صلى الله عليه و سلم
● [ إنفاقه و بيانه أنه أجود الصحابة ] ●قال الله تعالى : { وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى } إلى آخر السورة
قال ابن الجوزي : أجمعوا على أنها نزلت في أبي بكر
و أخرج أحمد [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر ] فبكى أبو بكر و قال : هل أنا و مالي إلا لك يا رسول الله ؟
و أخرج أبو يعلى من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا مثله
قال ابن كثير : و روي أيضا من حديث علي و ابن عباس و أنس و جابر بن عبد الله و أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم و أخرجه الخطيب عن سعيد بن المسيب مرسلا و زاد : [ و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقضي في مال أبي بكر كما يقضي في مال نفسه ]
و أخرج ابن عساكر من طرق عن عائشة رضي الله عنها و عروة بن الزبير [ أن أبا بكر رضي الله عنه أسلم يوم أسلم و له أربعون ألف دينار و في لفظ : أربعون ألف درهم فأنفقها على رسول الله صلى الله عليه و سلم ]
و أخرج أبو سعيد ابن الأعرابي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أسلم أبو بكر رضي الله عنه يوم أسلم و في منزله ألف درهم فخرج إلى المدينة في الهجرة و ما له غير خمسة آلاف كل ذلك ينفعه في الرقاب و العون على الإسلام
و أخرج ابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر أعتق سبعة كلهم يعذب في الله
و أخرج ابن شاهين في السنة و البغوي في تفسيره و ابن عساكر [ عن ابن عمر قال : كنت عند النبي صلى الله عليه و سلم و عنده أبو بكر الصديق و عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال : يا محمد مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها من صدره بخلال ؟ فقال : يا جبريل أنفق ماله علي قبل الفتح قال : فإن الله تعالى يقرأ عليه السلام و يقول : قل له : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال أبو بكر : أسخط على ربي ! ؟ أنا عن ربي راض أنا عن ربي راض أنا عن ربي راض ] غريب و سنده ضعيف جدا
و أخرج أبو نعيم [ عن أبي هريرة و ابن مسعود مثله و سندهما ضعيف أيضا
و أخرج ابن عساكر نحوه من حديث ابن عباس
و أخرج الخطيب بسند واه أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : هبط علي جبريل عليه السلام و عليه طنفسه و هو متخلل بها : فقلت له : يا جبريل ما هذا ؟ قال : إن الله تعالى أمر الملائكة أن تتخلل في السماء كتخلل أبي بكر في الأرض ]
قال ابن كثير : و هذا منكر جدا لولا أن هذا و الذي قبله يتداوله كثير من الناس لكان الإعراض عنهما أولى
و أخرج أبو داود و الترمذي [ عن عمر بن الخطاب قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نتصدق فوافق ذلك مالا عندي قلت : اليوم أسبق أبا بكر ـ إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أبقيت لأهلك ؟ قلت : و أتى أبو بكر بكل ما عنده فقال : يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك ؟ قال : أبقيت لهم الله و رسوله فقلت : لا أسبقه في شيء أبدا ] قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
و أخرج أبو نعيم في الحلية [ عن الحسن البصري : أن أبا بكر أتى النبي صلى الله عليه و سلم بصدقته فأخفاها فقال : يا رسول الله هذه صدقتي و لله عندي معاد و جاء عمر بصدقته فأظهرها فقال : يا رسول الله هذه صدقتي و لي عند الله معاد فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما بين صدقتيكما كما بين كلمتيكما ] إسناده جيد لكنه مرسل
و أخرج الترمذي [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما لأحد عندنا يد إلا و قد كافأناه إلا أبا بكر فإن له عندنا يدا يكافئه الله بها يوم القيامة و ما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر ]
و أخرج البزار [ عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : جئت بأبي قحافة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : هلا تركت الشيخ حتى آتيه قال بل هو أحق أن يأتيك قال : إنا نحفظه لأيادي ابنه عندنا ]
و أخرج ابن عساكر [ عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أحد عندي أعظم يدا من أبي بكر واساني بنفسه و ماله و أنكحني ابنته ]
● [ علمه و ذكاؤه ] ●قال النووي في تهذيبه و من خطه نقلت : استبدل أصحابنا على عظم علمه بقوله رضي الله عنه في الحديث الثابت في الصحيحين : و الله لأقاتلن من فرق بين الصلاة و الزكاة و الله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لقاتلتهم على منعه و استدل الشيخ أبو إسحاق بهذا و غيره في طبقاته على أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أعلم الصحابة لأنهم كلهم وقفوا عن فهم الحكم في المسألة إلا هو ثم ظهر لهم بمباحثته لهم أن قوله هو الصواب فرجعوا إليه
و روينا عن ابن عمر أنه سئل : من كان يفتي الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أبو بكر و عمر رضي الله عنهما ما أعلم غيرهما
و أخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري قال : خطب رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس و قال : إن الله تبارك و تعالى خير عبدا بين الدنيا و بين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله تعالى فبكى أبو بكر و قال : نفديك بآبائنا و أمهاتنا فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عبد خير فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم هو المخير و كان أبو بكر أعلمنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن من أمن الناس علي في صحبته و ماله أبا بكر و لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر و لكن أخوة الإسلام و مودته لا يبقين باب إلا سد إلا باب أبي بكر ] هذا كلام النووي
و قال ابن كثير : كان الصديق رضي الله عنه أقرأ الصحابة ـ أي أعلمهم بالقرآن ـ لأنه صلى الله عليه و سلم قدمه إماما للصلاة بالصحابة رضي الله عنه مع قوله : [ يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ] و أخرج الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره ] و كان مع ذلك أعلمهم بالسنة كما رجع إليه الصحابة في غير موضع يبرز عليهم بنقل سنن عن النبي صلى الله عليه و سلم يحفظها هو و يستحضرها عند الحاجة إليها ليست عندهم و كيف لا يكون ذلك و قد واظب على صحبة الرسول الله صلى الله عليه و سلم من أول البعثة إلى الوفاة ؟ و هو مع ذلك من أذكى عباد الله و أعقلهم و إنما لم يرو عنه من الأحاديث المسندة إلا القليل لقصر مدته و سرعة وفاته بعد النبي صلى الله عليه و سلم و إلا فلو طالت مدته لكثر ذلك عنه جدا و لم يترك الناقلون عنه حديثا إلا نقلوه و لكن كان الذين في زمانه من الصحابة لا يحتاج أحد منهم أن ينقل عنه ما قد شاركه هو في روايته فكانوا ينقلون عنه ما ليس عندهم
و أخرج أبو القاسم البغوي عن ميمون بن مهران قال : كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي به بينهم قضى به و إن لم يكن في الكتاب و علم من رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك الأمر سنة قضى بها فإن أعياه خرج فسأل المسلمين و قال : أتاني كذا و كذا فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى في ذلك بقضاء ؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه قضاء فيقول أبو بكر : الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم جمع رؤوس الناس و خيارهم فاستشارهم فإن أجمع أمرهم على رأي قضى به و كان عمر رضي الله عنه يفعل ذلك فإن أعياه أن يجد في القرآن و السنة نظر هل كان لأبي بكر فيه قضاء ؟ فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء قضى به و إلا دعا رؤوس المسلمين فإذا اجتمعوا على أمر قضى به
و كان الصديق رضي الله عنه مع ذلك أعلم الناس بأنساب العرب لا سيما قريش أخرج ابن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن شيخ من الأنصار قال : كان جبير ابن مطعم من أنسب قريش لقريش و العرب قاطبة و كان يقول : إنما أخذت النسب من أبي بكر الصديق و كان أبو بكر الصديق من أنسب العرب
و كان الصديق مع ذلك غاية في علم تعبير الرؤيا و قد كان يعبر الرؤيا في زمن النبي صلى الله عليه و سلم و قد قال محمد بن سيرين ـ و هو المقدم في هذا العلم بالاتفاق ـ : كان أبو بكر أعبر هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه و سلم أخرجه ابن سعد
و أخرج الديلمي في مسند الفردوس و ابن عساكر [ عن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرت أن أؤول الرؤيا و أن أعلمها أبا بكر ]
قال ابن كثير : و كان من أفصح الناس و أخطبهم قال الزبير بن بكار : سمعت بعض أهل العلم يقول : أفصح خطباء أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : أبو بكر الصديق و علي بن أبي طالب رضي الله عنهما و سيأتي في حديث السقيفة قول عمر رضي الله عنه : و كان من أعلم الناس بالله و أخوفهم له و سيأتي من كلامه في ذلك و في تعبير الرؤيا و من خطبه جملة في فصل مستقل
و من الدلائل على أنه أعلم الصحابة حديث صلح الحديبية حيث سأل عمر رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك الصلح و قال : علام نعطي الدنية في ديننا ؟ فأجابه النبي صلى الله عليه و سلم ثم ذهب إلى أبي بكر فسأله عما سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم فأجابه كما أجابه النبي صلى الله عليه و سلم سواء بسواء أخرجه البخاري و غيره
و كان مع ذلك أسد الصحابة رأيا و أكملهم عقلا أخرج تمام الرازي في فوائده و ابن عساكر [ عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : أتني جبريل فقال : إن الله يأمرك أن تستشير أبا بكر ] و أخرج الطبراني و أبو نعيم و غيرهما عن معاذ بن جبل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لما أراد أن يسرح معاذا إلى اليمين استشار ناسا من أصحابه فيهم أبو بكر و عمر و عثمان و علي و طلحة و الزبير و أسيد بن حضير فتكلم القوم كل إنسان برأيه فقال : ما ترى يا معاذ ؟ قلت : أرى ما قال أبو بكر ] فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله يكره فوق سمائه أن يخطأ أبو بكر ] و رواه ابن أبي أسامة في مسنده [ إن الله يكره في السماء أن يخطأ أبو بكر الصديق في الأرض ] و أخرج الطبراني في الأوسط عن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله يكره أن يخطأ أبو بكر ] رجاله ثقات
قال النووي في تهذيبه : الصديق أحد الصحابة الذين حفظوا القرآن كله و ذكر هذا أيضا جماعة منهم ابن كثير في تفسيره و أما حديث أنس [ جمع القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أربعة ] فمراد من الأنصار كما أوضحته في كتاب الإتقان و أما ما أخرجه ابن أبي داود عن الشعبي قال : مات أبو بكر الصديق رضي الله عنه و لم يجمع القرآن كله فهو مدفوع أو مؤول على أن المراد جمعه في المصحف على الترتيب الذي صنعه عثمان رضي الله عنه
خير البرية أتقاها و أعدلها . إلا النبي و أوفاها بما حملا
والثاني التالي المحمود مشهده . و أول الناس منهم صدق الرسلا