من طرف همسات السبت فبراير 24, 2018 9:55 am
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة التاريخ
عجائب الآثار
الجزء الأول
{ الفصل الثاني }
في ذكر حوادث مصر وولاتها وتراجم اعيانها
ووفياتهم ابتداء من ظهور امر الفقارية
{ احداث سنة ثلاث وثمانين ومائة والف }
فيها في المحرم أخرج علي بك عثمان اغا الوكيل من مصر منفيا الى جهة الشام وكذلك احمد أغا اغات الجوالي وأغات الضربخانة الى جهة الروم
وكان أحمد أغا هذا رجلا عظيما ذا غنية كبيرة وثروة زائدة فصادره علي بك في ماله وامره بالخروج من مصر فاحضر المطربازية والدلالين والتجار وأخرج متاعه وذخائره وباعها بسوق المزاد بينهم فبيع موجوده من أمتعة وثياب وجواهر وتحف واسلحة وكتب واشياء نفيسة وهو ينظر اليها ويتحسر ثم سافر الى جهة الاسكندرية
وفيها توفي محمد باشا الذي كان بقصر عبد الرحمن كتخدا بشاطيء النيل ولعله مات مسموعا ودفن بالقرافة الصغرى عند مدافن الباشوات بالقرب من الامام الشافعي
ونزل الحج ودخل الى مصر مع امير الحاج خليل بك بلغيا في امن وأمان
ووصل باشا من طريق البر وطلع الامراء الى العادلية لملاقاته ونصبوا خيامهم ودخل بالموكب وذلك في شهر صفر
وفيها أرسل علي بك تجريدة الى سويلم بن حبيب والهنادي بالبحيرة ثم نقل منها الى المحلة الكبرى فاقام سنين
وفيها ارسل علي بك تجريدة الى سويلم بن حبيب والهنادي بالبحبر وباش التجربدة اسمعيل بك وذلك ان ابن حبيب لما رحل من دجوة وذهب الى البحيرة وانضم الى عرب الهنادي وكان المتولي على كشوفية البحيرة عبدالله بك تابع علي بك فحاربوه وحاربهم حتى قتل عبد الله بك المذكور في المعركة ونهبوا متاعة ووطاقه وكان احمد بك بشناق لما خرج من مصر هاربا بعد قتل صالح بك كما تقدم ذهب الى الروم فصادف هناك جماعة من الهربانين ومنهم يحيى السكري وعلي أغا المعمار وعلي بك الملط وغيرهم وزيفوا بسبب المغرضين لعلي بك بدار السلطنة فنزلوا في مركبين الى درنة فوصلوها متفرقين
فالتي وصلت اولا بها يحيى السكري وعلي المعمار والملط فركبوا عندما وصلوا الى درنة وذهبوا الى الصعيد ووصلت المركب الأخرى بعد أيام وبها أحمد بك بشناق فطلع الى عند الهنادي
فلما وصل اسمعيل بك ومن معة بالتجريدة فتحاربوا مع الحبايبة والهنادي ومعهم أحمد بك بشناق ثلاثة أيام وكان سويلم بن حبيب منعزلا في خيمة صغيرة عند امرأة بدوية بعيدا عن المعركة فذهب بعض العرب وعرف الامراء بمكانة فكبسوه وقتلوه وقطعوا رأسة ورفعوها على رمح واشتهر ذلك
فارتفع الحرب من بين الفريقين وتفرق الهنادي وعرب الجزيرة والصوالحة وغيرهم وراحت كسرة على الجميع ولم يقم لهم قائم من ذلك اليوم وتغيب أحمد بك بشناق فلم يظهر الا بعد مدة ببلاد الشام
وفيها تقلد أيوب بك على منصب جرجا وخرج مسافرا ومعه عدة كبيرة من العساكر والاجناد فوصلوا الى قرب اسيوط فوردت الاخبار باجتماع الامراء المنفيين وتملكهم اسيوط وتحصنهم بها وكان من أمرهم انه لما ذهب محمد بك أبو الذهب الى جهة قبلي لمنابذة شيخ العرب همام كما تقدم وجرى بينهما الصلح على ان يكون لهمام من حدود برديس وتم الامر على ذلك بشرط ان تطرد المصريين الذين عندك ولا تبقي منهم احدا بدائرتك
فجمعهم وأخبرهم بذلك وقال لهم اذهبوا الى اسيوط واملكوها قبل كل شيء فان فعلتم ذلك كان لكم بها قوة ومنعة وأنا امدكم بعد ذلك بالمال والرجال فاستصوبوا رأيه وبادروا وذهبوا الى اسيوط وكان بها عبد الرحمن كاشف من طرف علي بك وذو الفقار كاشف وقد كانوا حصنوا البلدة وجهاتها وبنوا كرانك والبوابة وركب عليها المدافع فتحيل ليلا وزحفوا الى البوابة ومعهم انخاخ وأحطاب جعلوا فيها الكبريت والزيت وأشعلوها وأحرقوا الباب وهجموا على البلدة فلم يكن له بهم طاقة لكثرتهم وهم جماعة صالح بك وباقي القاسمية وجماعة الخشاب وجماعة الفلاح وجماعة مناو ويحيى السكري وسليمان الجلفي وحسن كاشف ترك وحسن بك ابو كرش ومحمد بك الماوردي وعبد الرحمن كاشف من خشداشين صالح بك وكان من الشجعان ومحمد كتخدا الجلفي وعلي بك الملط تابع خليل بك وجماعة كشكش وغيرهم ومعهم كبار الهوارة واهالي الصعيد
فملكوا اسيوط وتحصنوا بها وهرب من كان فيها ووردت الاخبار بذلك الى علي بك فعين للسفر ابراهيم بلغيا ومحمد بك أبا شنب وعلي بك الطنطاوي ومن كل وجاق جماعة وعساكر ومغاربة وأرسل الى خليل بك القاسمي المعروف بالاسيوطي فاحضره من غزة وطلع هو وابراهيم بك تابع محمد بك بعساكر أيضا وعزل الباشا وأنزله وحبسه ببيت ايواظ يك عند الزير المعلق ثم سافر محمد بك ابو الذهب ورضوان بك وعدة من الامراء والصناجق وضم اليهم ما جمعه وجلبه من العساكر المختلفة الاجناس من دلاة ودروز ومتاولة وشوام
وسافر الجميع برا وبحرا حتى وصلوا الى أيوب بك وهو يرسل خلفهم في كل يوم بالامداد والجبخانات والذخيرة والبقسماط وذهب الجميع الى أن وصلوا قرب اسيوط ونصبوا عرضيهم عند جزيرة منقباط وتحققوا وصول محمد بك ومن معه وفرحوا بذلك لانهم كانوا رأوا في زايرجات الرمل سقوطه في المعركة
ثم أجمعوا رأيهم على ان يدهموهم آخر الليل فركبوا في ساعة معلومة وسار بهم الدليل في طوق الجبل وقصدوا النزول من محل كذا على ناحية كذا من العرضي فتاه وضل بهم الدليل حتى تجاوزوا المكان المقصود بساعتين واخذوا جهة العرضى فوجدوه قبليهم بذلك المقدار وعلموا فوات القصد وان القوم متى علموا حصولهم خلفهم ملكوا البلدة من غير مانع قبل رجوعهم من المكان الذي اتوا منه فما وسعهم الا الذهاب اليهم ومصادمتهم على أي وجه كان فلم يصلوهم الا بعد طلوع النهار
وتبقظ القوم واستعدوا لهم فالتطموا معهم وهم قليلون بالنسبة اليهم ووقع العرب واشتد الجلاد وبذلوا جهدهم في الحرب ويصرخ الكثير منهم بقوله اين محمد بك فبرز اليهم محمد بك أبو شنب وهو يقول أنا محمد بك
فقصدوه وقاتلوه وقاتلهم حتى قتل وسقط جواد يحيى السكري فلم يزل يقاتل ويدافع حصة طويلة حتى تكاثروا علية وقتلوة وعبد الرحمن كاشف القاسمي يحارب بمدفع يضربة وهو على كتفة
وانجلت الحرب عن هزيمتهم ونصرة المصريين عليهم وذلك عند جبانة اسيوط
فتشتتوا في الجهات وانضموا الى كبار الهوارة وملك المصريون اسيوط ودفنوا القتلى ومحمد بك أبا شنب
واغتم محمد بك ابو الذهب لموته وفرح لوقوع الزايرجة عليه ومفاداته لة لأنه كان يعلم ذلك أيضا
وأقاموا بأسيوط اياما ثم ارتحلوا الى قبلي بقصد محاربة همام والهوارة
واجتمع كبار الهوارة مع من انضم اليهم من الأمراء المهزومين فراسل محمد بك اسمعيل أبا عبد الله وهو ابن عم همام واستماله ومناه وواعده برياسة بلاد الصعيد عوضا عن شيخ العرب همام حتى ركن الى قوله وصدق تمويهاته وتقاعس وتثبط عن القتال وخذل طوائفه
ولما بلغ شيخ العرب همام ما حصل ورأى فشل القوم خرج من فرشوط وبعد عنها مسافة ثلاثة ايام ومات مكمودا مقهورا ووصل محمد بك ومن معه الى فرشوط فلم يجدوا مانعا فملكوها ونهبوا واخذوا جميع ما كان بدوائر همام وأقاربة واتباعه من ذخائر وأموال وغلال
وزالت دولة شيخ العرب همام من بلاد الصعيد من ذلك التاريخ كانها لم يكن ورجع الأمراء الى مصر ومحمد بك أبو الذهب وصحبته درويش ابن شيخ العرب همام
فانه لما مات أبوه وانكسر ظهر القوم بموته وعلموا انهم لا نجاح لهم بعده أشاروا على ابنه بمقابلة محمد بك وانفصلوا عنه وتفرقوا في الجهات
فمنهم من ذهب الى درنه ومنهم من ذهب الى الروم ومنهم من ذهب الى الشام
وقابل درويش بن همام محمد بك وحضر صحبته الى مصر وأسكنه في مكان بالرحبة المقابلة لبيته وصار يركب ويذهب لزيارة المشاهد ويتفرج على مصر ويتفرج عليه الناس ويعدون خلفه وأمامه لينظروا ذاته
وكان وجيها طويلا أبيض اللون اسود اللحية جميل الصورة ثم ان علي بك أعطاه بلاد فرشوط والوقف بشفاعة محمد بك
وذهب الى وطنه فلم يحسن السير والتدبير وأخذ امره في الانحلال وحاله في الاضمحلال وارسل من طالبه بالاموال والذخائر فاخذوا ما وجدوه
وحضر الى مصر والتجأ الى محمد بك فاكرمه وانزله بمنزل بجواره فلم يزل مقيما به حتى خرج محمد بك من مصر مغاضبا لاستاذه فلحق به الى الصعيد وخلص الاقليم المصري بحري
وقبلي الى علي بك وأتباعه فشرع في قتل المنفيين الذين أخرجهم الى البنادر مثل دمياط ورشيد والاسكندرية والمنصورة فكان يرسل اليهم ويخنقهم واحدا بعد واحد فخنق علي كتخدا الخربطلي برشيد وحمزة بك تابع خليل بك بزفتا وقتلوا معه سليمان أغا الوالي وإسمعيل بك أبا مدفع بالمنصورة وعثمان بك تابع خليل بك هرب الى مركب البيليك فحماه وذهب الى اسلامبول ومات هناك ونفى أيضا جماعة واخرجهم من مصر وفيهم سليمان كتخدا المشهدي وابراهيم أفندي جمليان
ومات الباشا المنفصل بالبيت الذي نزل فيه ولحق بمن قبله
ومما اتفق ان علي بك صلى الجمعة في اوائل شهر رمضان بجامع الداودية فخطب الشيخ عبد ربه ودعا للسلطان ثم دعا لعلي بك
فلما انقضت الصلاة وقام علي بك يريد الانصراف احضر الخطيب وكان رجلا من اهل العلم يغلب عليه البله والصلاح فقال له من امرك بالدعاء باسمي على المنبر أقيل لك اني سلطان فقال نعم انت سلطان وانا ادعو لك
فاظهر الغيظ وامر بضربه فبطحوه وضربوه بالعصي فقام بعد ذلك متألما من الضرب وركب حمارا وذهب الى داره ثم ان علي بك ارسل اليه في ثاني يوم بدراهم وكسوة واستسمحه
من مات في هذه السنة من العلماء والامراء
مات الامام الولي الصالح المعتقد المجذوب العالم العامل الشيخ علي ابن حجازي بن محمد البيومي الشافعي الخلوتي ثم الاحمدي ولد تقريبا سنة 1108 حفظ القرآن في صغره وطلب العلم وحضر دروس الاشياخ وسمع الحديث والمسلسلات على عمر بن عبد السلام التطاوني وتلقن الخلوتية من السيد حسين الدمرداشي العادلي وسلك بها مدة ثم اخذ طريق الاحمدية عن جماعة ثم حصل له جذب ومالت اليه القلوب وصار للناس فيه اعتقاد عظيم
وانجذبت اليه الارواح ومشى كثير من الخلق على طريقته واذكاره وصار له اتباع ومريدون وكان يسكن الحسينية ويعقد حلق الذكر في مسجد الظاهر خارج الحسينية وكان يقيم به هو وجماعته لقربه من بيته وكان ذا واردات وفيوضات واحواله غريبة
والف كتبا عديدة منها شرح الجامع الصغير وشرح الحكم لابن عطاء الله السكندري وشرح الانسان الكامل للجيلي وله مؤلفات في طريق القوم خصوصا في طريق الخلوتية الدمرداشية الفه سنة 1144 وشرح الاربعين النووية ورسالة في الحدود وشرح على الصيغة الاحمدية وشرح على الصيغة المطلسمة وله كلام عال في التصوف واذا تكلم افصح في البيان واتى بما يبهر الاعيلان وكان يلبس قميصا ابيض وطاقية بيضاء ويعتم عليها بقطعة شملة حمراء لا يزيد على ذلك شتاء وصيفا وكان لا يخرج من بيته الا في كل اسبوع مرة لزيارة المشهد الحسيني وهو على بغلة واتباعه بين يديه وخلفه يعلنون بالتوحيد والذكر وربما جلس شهورا لا يجتمع باحد من الناس وكانت له كرامات ظاهرة
ولما كان يعقد الذكر بالمشهد الحسيني في كل يوم ثلاثاء ويأتي بجماعته على الصفة المذكورة ويذكرون في الصحن الى الضحوة الكبرى قامت عليه العلماء وانكروا ما يحصل من التلوث في الجامع من اقدام جماعته اذ غالبهم كانوا يأتون حفاة ويرفعون اصواتهم بالشدة وكاد ان يتم لهم منعه بواسطة بعض الامراء فانبرى لهم الشيخ الشبراوي وكان شديد الحب في المجاذيب وانتصر له وقال للباشا والامراء هذا الرجل من كبار العلماء والاولياء فلا ينبغي التعرض له
وحينئذ امره الشيخ بان يعقد درسا بالجامع الازهر فقرأ في الطيبرسية الاربعين النووية وحضره غالب العلماء وقرر لهم ما بهر عقولهم فسكتوا عنه وخمدت نار الفتنة
ومن كلامه في آخر رسالة الخلوتية ما نصه فمن منن الله علي وكرمه أني رأيت الشيخ دمرداش في السماء وقال لي لا تخف في الدنيا ولا في الآخرة وكنت ارى النبي صلى الله عليه و سلم في الخلوة في المولد فقال لي في بعض السنين لا تخف في الدنيا ولا في الآخرة ورأيته يقول لابي بكر رضي الله عنه اسع بنا نطل على زاوية الشيخ دمرداش وجاءا حتى دخلا في الخلوة ووقفا عندي وأنا اقول الله الله وحصل لي في الخلوة وهم في رؤية النبي صلى الله عليه و سلم فرأيت الشيخ الكبير يقول لي عند ضريحه مد يدك الى النبي صلى الله عليه و سلم فهو حاضر عندي
ورأيته في خلوة الكردي يعني الشيخ شرف الدين المدفون بالحسينية بين اليقظة والنوم وأنا جالس فانتبهت فرأيت النور قد ملأ المحل فخرجت منها هائما فحاشني بعض من كان في المحل فوقفت عند الشيخ ولم أقدر على العود الى الخلوة من الهيبة الى آخر الليل
وتبسم في وجهي مرة واعطاني خاتما وقال لي والذي نفسي بيده في غد يظهر ما كان مني وما كان منك
ومن كراماته انه كان يتوب العصاة من قطاع الطريق ويردهم عن حالهم فيصيرون مريدين له وذا سمعته من الثقات ومنهم من صار من السالكين وكان تارة يربطهم بسلسلة عظيمة من حديد في عمدان مسجد الظاهر وتارة بالشوق في رقبتهم يؤدبهم بما يقتضيه رأيه
وكان اذا ركب ساروا خلفه بالاسلحة والعصي وكانت عليه مهابة الملوك
واذا ورد المشهد الحسيني يغلب عليه الوجد في الذكر حتى يصير كالوحش النافر في غاية القوة فاذا جلس بعد الذكر تراه في غاية الضعف
وكان الجالس يرى وجهه تارة كالوحش وتارة كالعجل وتارة كالغزال
ولما كان بمصر مصطفى باشا مال اليه واعتقده وزاره فقال له انك ستطلب الى الصدارة في الوقت الفلاني فكان كما قال له الشيخ
فلما ولي الصدارة بعث الى مصر وبنى له المسجد المعروف به بالحسينية وسبيلا وكتابا وقمة وبداخلها مدفن للشيخ علي على يد الامير عثمان أغا وكيل دار السعادة ولما مات خرجوا بجنازته وصلي عليه بالازهر في مشهد عظيم ودفن بالقبر الذي بني له بداخل القبة بالمسجد المذكور
ومات علامة وقته واوانه الآخذ من كمية البلاغة بعنانه والولي الصوفي من صفا فصوفي الشيخ حسن الشيبيني ثم الفوي رحل من بلدته فوة الى الجامع الازهر فطلب العلم وأخذ عن الشيخ الديربي فجعله ممليا عليه في الدرس حتى قرأ الاشموني والمختصر ونحو ذلك واخبر عن نفسه كان ملازما لولي من أولياء الله تعالى فحين تعلقت نفسه بالمجيء الى الجامع الازهر توجه مع هذا الولي لزيارة ثغر دمياط
ثم اشتغل بالفقه وغيره من أصول ومنطق ومعان وبيان وتفسير وحديث وغير ذلك حتى فاق على أقرانه وصار علامة زمانه
ثم اخذ عن الشيخ الحفني الطريق وتلقن الاسماء وسار على حسب سلوكه وسيره والبسه التاج واجازه باخذ العهود والتلقين والتسليك وصار خليفة محضا فادار مجالس الاذكار ودعا الناس اليها في سائر الاقطار وفتح الله عليه باب العرفان حتى صار ينطق باسرار القرآن ويتكلم في الحقائق
نقل عن الشيخ الحفني انه ورد عليه منه مكتوب فقال الحمد لله الذي جعل في اتباعه من هو كمحيي الدين ابن العربي
توفي رحمه الله تعالى في هذه السنة وخلف ولده السيد احمد موجود في الاحياء بارك الله فيه
وممن أخذ عنه صاحبنا العمدة العلامة الصالح السيد علي المعروف بزيادة الرشيدي وهو خليفة الخلوتية الآن بثغر رشيد نفع الله به
ومات الجناب المبجل الفريد الكاتب الماهر المنشيء البليغ المجيد محمد أفندي بن اسمعيل السكندري العارف بالالسنة الثلاثة العربية والفارسية والتركية وكان لديه محاورات ولطائف ادبية وميل شديد الى علم اللغة وبحث عن الادوات المتعلقة به ورسائله في الالسن الثلاثة غاية في الفصاحة مع حسن حظ ووفور حظ ومهابة عند الامراء وقبول عند الخواص ووالده كان اسرائيليا فاسلم وحسن اسلامه وتولى مناصب جليلة بالثغر وله هناك شهرة فولد هذا هناك وهذبه وادبه حتى صار الى ما صار واستقر بمصر وما زالت له املاك هناك وقرابة رايته يأتي لزيارة الشيخ الوالد وقد اكتهل وتناهى في السن وابقى الدهر في زواياه خبايا مستحسنة
ورأيت بخط يده كتاب بهارستان لمولانا جامي قد احسن في كتابته واتقن في سياقه ومجموعا فيه النوادر من اشعار الالسن الثلاثة
وبالجملة لم يكن في عصره من يدانية في الفنون التي كان تجمل بها
وقد ذكره الاديب الشيخ عبد الله الادكاري في بضاعة الاريب واثنى على محاسنه وكانت بينهما الفة تامة ومصافاة ومصادقة ومحاورات ادبية
فان المترجم كان أوحد عصره ووحيد مصره لم يدانيه في مجموعة الفضائل احد ولم يزل حميد المسغى جميل السيرة بهيا وقورا مهيبا عند الامراء والوزراء حتى وافاه الحمام في يوم الجمعة حادي عشر المحرم من السنة
ومات الاستاذ العارف سيدي علي بن العربي بن علي العربي الفاسي المصري الشهير بالسقاط ولد بفاس وقرأ على والده وعلى العلامة محمد ابن أحمد بن العربي بن الحاج الفاسي سمع منه الاحياء جميعا بقراءة ولد عمه النبيه الكاتب ابي عبد الله محمد بن الطيب بن محمد بن علي السقاط وعلى ولده ابي العباس احمد بن محمد العربي ابن الحاج وعلى سيدي محمد بن عبد السلام البناني كتب العربية والمعقول والبيان ولما ورد مصر حاجا لازمه فقرأ عليه بلفظه من الصحيح الى الزكاة والشمايل بطرفيه بالجامع الازهر وكثيرا من المسلسلات والكتب التي تضمنتها فهرست ابن غازي قراءة بحث وتفهيم واجازه حينئذ باواسط جمادى الثانية سنة 1143 وجاور بمكة فسمع على البصري الصحيح كاملا ومسلما بفوت وجميع الموطأ رواية يحيى بن يحيى وذلك خلف المقام المالكي عند باب ابراهيم واجازه وعلى النخلي اوائل الكتب الستة واجازه وعاد الى مصر فقرأ على الشيخ ابراهيم الفيومي اوائل البخاري وعلى احمد بن احمد الغرقاوي واجازه وعلى عمر بن عبد السلام التطاوني جميع الصحيح وقطعة من البيضاوي بجامع الغوري سنة 1136 وجميع المنح البادية في الاسانيد العالية واضافه على الاسودين وشابكه وصافحه وناوله السبحة واجازه بسائر السلسلات وعلى محمد القسطنطيني رسالة ابن ابي زيد برواق المغاربة وعلى محمد بن زكري شرحه على الحكم بجامع الغوري وعلى سيدي محمد الزرقاني كتاب الموطأ من باب العتق الى آخره واجازه به يوم ختمه وذلك ثامن شعبان سنة 1113
وروى حديث الرحمة عن سيدي السيد مصطفى البكري في سنة 1160 واجازه ابن الميت في العموم واجتمع به شيخنا السيد مرتضى في منزل السيد علي المقدسي كان قد اتى اليه لمقابلة المنح البادية على نسخته وشاركهما في المقابلة واحبه وباسطه وشافهه بالإجازة العامة وكان انسانا مستأنسا بالوحدة منجمعا عن الناس محبا للانفراد غامضا مخفيا ولا زال كذلك حتى توفي في آواخر جمادى الاولى سنة 1183 ودفن بالزاوية بالقرب من الفحامين
ومات الجناب الاجل والكهف الاظل الجليل المعظم والملاذ المفخم الاصيلي الملكي ملجأ الفقراء والامراء ومحط رجال الفضلاء والكبراء شيخ العرب الامير شرف الدولة همام بن يوسف بن احمد بن محمد بن همام بن صبيح بن سيبيه الهوراي عظيم بلاد الصعيد ومن كان خيره وبره يعم القريب والبعيد وقد جمع فيه من الكمال ما ليس فيه لغيره مثال تنزل بحرم سعادته قوافل الاسفار وتلقى عنده عصى التسيار واخباره غنية عن البيان مسطرة في صحف الامكان منها انه اذا نزل بساحته الوفود والضيفان تلقاهم الخدم وانزلوهم في اماكن معدة لامثالهم واحضروا لهم الاحتياجات واللوازم من السكر وشمع العسل والاواني وغير ذلك ثم مرتب الاطعمة في الغداء والعشاء والفطور في الصباح والمربيات والحلوى مدة اقامتهم لمن يعرف ومن لا يعرف
فان أقاموا على ذلك شهورا لا يختل نظامهم ولا ينقص راتبهم والا قضوا اشغالهم على اتم مرادهم وزادهم اكراما وانصرفوا شاكرين وان كان الوافد ممن يرتجى البر والاحسان اكرمه واعطاه وبلغه اضعاف ما يترجاه
ومن الناس من كان يذهب اليه في كل سنة ويرجع بكفاية عامة وهذا شأنه في كل من كان من الناس
وأما اذا كان الوافد عليه من اهل الفضائل او ذوي البيوت قابلة بمزيد الاحترام وحياة بجزيل الانعام وكان ينعم بالجواري والعبيد والسكر والغلال والثمر والسمن والعسل واذا ورد عليه انسان ورآه مرة وغاب عنه سنين ثم نظره وخاطبه عرفه وتذكره ولا ينساه
وحاله فيما ذكر من الضيفان والوافدين والمسترفدين أمر مستمر على الدوام لا ينقطع أبدا
وكان الفراشون والخدم يهيئون أمر الفطور من طلوع الفجر فلا يفرغون من ذلك الا ضحوة النهار ثم يشرعون في أمر الغداء من الضحوة الكبرى الى قريب العصر ثم يبتدئون في أمر العشاء وهكذا
وعنده من الجواري والسراري والمماليك والعبيد شيء كثير ويطلب في كل سنة دفتر الارقاء ويسأل عن مقدار من مات منهم فان وجده خمسمائة أو أربعمائة استبش وانشرح وان وجده ثلثمائة او اقل او نحو ذلك اغتم وانقبض خاطره ورأى ان ربما كانت في اعظم من ذلك وكان له برسم زراعة قصب السكر وشركة فقط اثنا عشر ألف ثور وهذا بخلاف المعد للحرث ودراس الغلال والسواقي والطواحين والجواميس والابقار الحلابة وغير ذلك
واما شون الغلال وحواصل السكر والتمر بأنواعه والعجوة فشيء لا يعد ولا يحد وكان الانسان الغريب اذا رأى شون الغلال من البعد ظنها مزارع مرتفعة لطول مكث الغلال وكثرتها فينزل عليها ماء المطر ويختلط بالتراب فتنبت وتصير خضرا كأنها مزروعة وكان عنده من الأجناد والقواسة واكثرهم من بقايا القاسمية انضموا اليه وانتسبوا له وهم عدة وافرة وتزوجوا وتوالدوا وتخلقوا باخلاق تلك البلاد ولغاتهم وله دواوين وعدة كتبة من الأقباط والمستوفيين والمحاسبين لا يبطل شغلهم ولا حسابهم ولا كتابتهم ليلا ونهارا ويجلس معهم حصة من الليل الى الثلث الاخير بمجلسه الداخل بحاسب ويملي ويأمر بكتابة مراسيم ومكاتبات
لا يعزب عن فكره شيء قل ولاجل ثم يدخل الى الحريم فينام حصة لطيفة ثم يقوم الى الصلاة
واذا جلس مجلسا عاما وضع بجانبه فنجانا فيه قطنة وماء ورد فاذا قرب منه بعض الاجلاف وتحادثوا معه وانصرفوا مسح بتلك القطنة عينيه وشمها بانفه حذرا من رائحتهم وصنانهم
وكان له صلات واغداقات وغلال يرسلها للعلماء وارباب المظاهر بمصر في كل سنة
وكان ظلا ظليلا بارض مصر ولما ارتحل لزيارته شيخنا السيد محمد مرتضى وعرف فضله اكرمه اكراما كثيرا وانعم عليه بغلال وسكر وجوار وعبيد وكذلك كان فعله مع امثاله من أهل العلم والمزايا
ولم يزل هذا شأنه حتى ظهر امر علي بك وحصل ما تقدم شرحه من وقائعه من خشداشينه وذهابه الى الصعيد وصلحه مع صالح بك وانضمامه اليه وكان المترجم صديقا لصالح بك وعشيرته فامدهما بالمال والرجال مراعاة لسعي صالح بك حتى تم لهما الامر وغدر علي بك بصالح بك وخرجت رجاله واتباعه الى الصعيد واعلموه بما اوقعه بهم علي بك فاغتم على فقد صالح بك غما شديدا
وحمله ذلك على ان اشار عليهم بذهابهم الى اسيوط وتملكهم اياها فانها باب الصعيد فذهبوا اليها مع جملة المنفيين من مصر والمطرودين كما تقدم وامدهم شيخ العرب المترجم حتى ملكوها واخرجوا من كان بها واستوحش منه علي بك بسبب ذلك وتابع ارسال التجاريد وقدر الله بخذلان القبالي ورجوعهم الى قبلي على تلك الصورة فعند ذلك علم همام انه لم يبق مطلوبا لهم سواه وخصوصا مع ما وقع من فشل كبار الهوارة وآقاربه ونفاقهم عليه فلم يسعه الا الارتحال من فرشوط وتركها بما فيها من الخيرات وذهب الى جهة اسنا فمات في ثامن شعبان من السنة ودفن في بلدة تسمى قمولة فقضى عليه بها رحمه الله
وخلف من الاولاد الذكور ثلاثة وهم درويش وشاهين وعبد الكريم
ولما مات انكسرت نفوس الامراء ثم ان اكابر الهوارة قدموا ابنه درويشا لكونه اكبر اخوته واشاروا عليه بمقابلة محمد بك ففعل
واما الامراء فنهم من اخذ أمانا من محمد بك وقابله وانضم اليه ومنهم من ذهب الى ناحية درنه ونزل البحر وسافر الى الشام والروم ومنهم من انزوى الى الهوارة بالصعيد
وحضر درويش صحبة محمد بك الى مصر وقابل علي بك واعطاه بلاد فرشوط ورجع مكرما الى بلاده
فلم يحسن السير ولم يفلح واول ما بدأ في احكامه انه صار يقبض على خدم ابيه واتباعه ويعاقبهم ويسلب اموالهم وقبض على رجل يسمى زعيتر وكيل البصل المرتب لمطابخ أبيه فأخذ منه أموالا عظيمة في عدة ايام على مرار اخذ منه في دفعة من الدفعات من جنس الذهب البندقي أربعين الفا وكذلك من يصنع البرد للجواري السود والعبيد وذلك خلاف وكلاء الغلال والاقصاب والسكر والسمن والعسل والتمر والشمع والزيت والبن والشركاء في المزارع
ووصلت اخباره بذلك الى علي بك فعين عليه احمد كتخدا وسافر اليه بعدة من الاجناد والمماليك وطالبه بالاموال حتى قبض منه مقادير عظيمة ورجع بها الى مخدومه واقتدى به بعد ذلك محمد بك في أيام امارته واخذ منه جملة وكذلك اتباعه من بعده حتى اخرجوا ما في دورهم من المتاع والاواني والنحاس قناطير مقنطرة ثم تتبعوا الحفر لاجل استخراج الخبايا حتى هدموا الدور والمجالس ونبشوها واخربوها وحضر درويش المذكور بآخرة الى مصر جاليا عن وطنه ولم يزل بها حتى مات كآحاد الناس
واستمر شاهين وعبد الكريم يزرعان بارض الوقف اسوة المزارعين ويتعيشون حتى ماتا
فاما شاهين فقتله مراد بك في سنة 1214 ايام الفرنسيس لامور نقمها عليه وخلف ولدا يدعى محمدا
واما عبد الكريم فانه مات على فراشه قريبا من ذلك التاريخ وترك ولدا يدعى هماما دون البلوغ يوصف بالنجابة حسبما نقل الينا من السفار
وكاتبني وكاتبته في بعض المقتضيات ورأيت ابن عمه محمد المكذور حين اتى الى مصر بعد ذهاب الفرنسيس وتردد عندي مرارا وسبحان من يرث الارض ومن عليها وهو خير الوارثين
ومات الجناب الكبير والمقدام الشهير من سرت بذكره الركبان وطار صيته بكل مكان الفارس الضرغام النجيب شيخ العرب سويلم بن حبيب من اكابر عظماء مشايخ العرب بالقليوبية ومسكنهم دجوة على شاطيء البحر وهو كبير نصف سعد مثل أبيه حبيب بن احمد وليس لهم اصل مذكور في قبائل العرب وانما اشتهروا بالفروسية والشجاعة
وحبيب هذا اصله من شطب قرية قريبة من اسيوط ولما مات حبيب خلف ولديه سالما وسويلما وكان سالم أكبر من اخيه وهو الذي تولى الرياسة بعد ابيه واشتهر بالفروسية وعظم امره وطار صيته وكثرت جنوده وفرسانه ورحاله وخيوله واطاعته جميع المقادم وكبار القبائل ونفذت كلمته فيهم وعظمت صولته عليهم وامتثلوا امره ونهيه ولا يفعلون شيئا بدون اشارته ومشورته
صار له خفارة البرين الشرقي والغربي من ابتداء بولاق الى رشيد ودمياط
وكان هو وفرسه مقوما على انفراده بالف خيال
وكان ظهور حبيب هذا في اوائل القرن
واتفق له ولابنه سالم هذا وقائع وامور مع اسمعيل بك ابن ايواظ وغيره لا بأس يذكر بعضها في ترجمته منها ان في سنة 1125 ارسل حبيب ولده سالما الى خيول الامير اسمعيل بك ابن ايواظ وهجم عليها بالمربع وجم معارفها واذنابها وتركها وذهب ولم ياخذ منها شيئا
وذلك باغراء بعض الناس مثل قيطاس بك وخلافه
وكانت الخيول بالغيط جهة القليوبية
وحضر اميرا خور واخبر مخدومه فاغتاظ لذلك وعزم على الركوب عليه فلاطفه يوسف بك الجزار حتى سكن غيظه ثم احضر حسنا ابا دفية زعيم مصر سابقا من القاسمية مشهور بالشجاعة وجعلوه قائمقام الامانة فسافر بجبخانة ومدفعين وصحبته طوائف ورجال وامره بان يطلب شر حبيب وان قدر على قتله فليفعل
وكتب مكاتبات للنواحي بان يكونوا مطيعين للمذكور فلم يزل حتى نزل في غيط برسيم عند ساقية خراب وعمل هناك متراسا ووضع المدفعين وغطاهما بلباد واقام رصد خيالة بالطريق واذا بسالم بن حبيب ركب في عبيده ورجاله متوجهين الى الجزيرة فنزل بطريقه بغيط الاوسية فحضر الخيالة الرصد الى الامير حسن ابي دفية واخبروه فركب برجاله وابقى عند المدافع عشرة من السجمانية واوصاهم بانهم اذا انهزموا من القوم فانهم يرمون بالمدفعين سواء ففعلوا ذلك بعدما لاقاهم ورمى منهم رجالا ووقع منهم ايضا عند رمي المدافع والرصاص ثلاثة عشر خيالا واخذوا منهم نحو ستة قلائع
ورجع سالم بن حبيب بمن بقي من طائفته الى ابيه وعرفه بما وقع له مع الامير حسن ابي دفية فارسل الى عرب الجزيرة فاحضر منهم فرسانا كثيرة وكذلك من اقليم المنوفية وركب الجميع قاصدين مناوشته
ووصلته أخبار ذلك فركب بمن معه وفعل كالأول وركب مبحرا وانعطف عليهم وحاربهم فرمى منهم فرسانا فانهزموا امامه
فوقف مكانه فرجعت عليه العرب والعبيد فانهزم امامهم فرمحوا خلفه طمعا منهم حتى وصل المدافع فرموا بهم واتبعوهم بطلق الرصاص فولوا هاربين وسقط من عرب الجزيرة وغيرها عدة فرسان
واخذوا منهم خيولا وسلاحا وحضرت نساؤهم ورفعوا القتلى ورجع سالم الى ابيه وعرفه بما جرى عليهم من حرقهم وقتل فرسانهم فارسل حبيب الى قيطاس بك يقول له انك اغريتنا بابن ايواظ وتولد من ذلك انه وجه علينا قائمقامه حرقنا بالنار وقتل منا اجاويد
فأرسل اليه مكاتبة خطابا للقصاصين بمعاونته ومساعدته فحضر اليه منهم عدة فرسان ضاربي نار وجمع اليه عربان الجزيرة وخيالة كثيرة من المنوفية وركب حبيب واولاده وجموعه الى جسر الناحية ونزل هناك وارسل اولاده بخيول يطلبون شر ابي دفية
واذا ركب عليهم انهزموا امامه حتى يصلوا الى محل رباطهم بالجسر ففعلوا ذلك الى ان وصلوا الى الجسر فضربت القصاصة بنادقهم طلقا واحدا فرموا نحو ثلاثين جنديا من الكبار والذي ما اصيب في بدنه اصيب حصانه وردت عليهم الخيول وانهزم الامير حسن ابو دفية بمن بقي معه الى دار الاوسية فاخذت العرب الخيول الشاردة وعروا الغز ورموهم في مقطع من الجسر وارسل العبيد اتوابا لجراريف وجرفوا عليهم التراب من غير غسل ولا تكفين
ورجع الى بلده وخلص ثأره وزيادة وحضرت الاجناد الى مصر واخبروا الصنجق بما وقع لهم مع حبيب واولاده فعزل الامير حسن ابا دفية من قائمقاميته وولى خلافه واخذ فرمانا بضرب حبيب واولاده وركب عليهم من البر والبحر ووصلت النذيرة الى حبيب فرمى مدافع ابي دفية البحر ووضع النحاس في اشناف والقاها ايضا في البحر
وقيل ان حبيب قبل هذه الواقعة بايام احضر ستة قناديل وعمرها بعدما عاير فتائلها وزنها بالميزان عيارا واحدا وكتب على كل قنديل ورقة باسمه واسم اخيه واولاده واسم ابن ايواظ واسرجها دفعة واحدة فانطفأ الذي باسمه اولا ثم انطفأ قنديل ابن ايواظ ثم قناديل اخيه واولاده شيئا بعد شيء
فقال انا اموت في دولة ابن ايواظ
ولما وصل اليه الخبر بحركة ابن ايواظ وركوبه عليه فركب باخيه واولاده وخرجوا هاربين ووصل ابن ايواظ الى دجوة ورمحوا على دواويرهم ورموا الرصاص وكانت المراكب وصلت الى البر الغربي تجاه دجوة ورسوا هناك وموعدهم سماع البنادق
فعند ذلك عدوا الى البر الشرقي وطلعوا اليه
فامر ابن ايواظ بهدم دواوير الحبايبة فهدموها بالقزم والفؤوس وانشأ كفرا بعيدا عن البحر بساقيه وحوض دواب وجامع وميضاة وطاحونين وجمع اهل البلد فعمروا مساكنهم في الكفر وسموه كفر الغلبة
ورجع الامير اسمعيل بك الى مصر واخذ الغز والاجناد ابقارا وعجولا واغناما وجواميس وامتعة وفرشا واخشابا شيئا كثيرا ووسقوه في المراكب وحضروا به من البر ايضا الى مصر
وكتب مكاتبات الى سائر القبائل من العربان بتحذيرهم من قبولهم حبيبا واولاده وان لا ينجمع عليه احد ولا يأويه فلم يسعهم الا انهم ذهبوا عند عرب غزة فاكرموهم ولم يزل بها حتى مات وحضر سالم ابنه بعد ذلك الى قليوب ببيت الشواربي شيخ الناحية سرا واخذله مكاتبة من ابراهيم بك ابي شنب خطابا الى ابن وافي المغربي بأن يوطن اولاد حبيب عنده حتى يأخذ لهم اجازة من استاذهم فارسل احضر عمه واخاه سويلما وعدوا الى الجبل الغربي وساروا عند ابن وافي شيخ المغاربة فرحب بهم وضرب لهم بيوت شعر واقاموا بها الى سنة 1130 فمات ابراهيم بك ابو شنب وكان يؤاسي اولاد حبيب ويرسل لهم وصولات بغلال يأخذونها من بلاده القبلية
فلما مات في الفصل ضاقت معيشتهم فحضر سالم بن حبيب من عند ابن وافي خفية وذلك قبل طلوع ابن ايواظ بالحج سنة احدى وثلاثين ودخل بيت السيد محمد دمرداش وسلم عليه وعرفه بنفسه فرحب به وشكا له حال غربته وبات عنده تلك الليلة واخذه في الصباح الى ابن ايواظ فدخل عليه وقبل يده ووقف فقال السيد محمد للصنجق عرفت هذا الذي قبل يدك
قال لا
قال هذا الذي جم أذناب خيولك
قال سالم
قال لبيك
قال اتيت بيتي ولم تخف قال له نعم اتيت بكفني اما ان تنتقم واما ان تعفو فأننا ضقنا من الغربة وها انا بين يديك
فقال له مرحبا بك احضر اهلك وعيالك وعمر في الكفر واتق الله تعالى وعليكم الامان
وامر له بكسوة وشال وكتب له أمانا وارسل به عبده
وركب سالم وذهب عند ابراهيم الشواربي بقليوب فاقام عنده حتى وصل العبد بالامان الى عمه واخيه في بني سويف فحملوا وركبوا وساروا الى قليوب ونزلوا بدار اوسية الكفر حتى بنوا لهم دواوير واماكن ومساكن واتتهم العرنبية ومشايخ البلاد ومقادمها للسلام والهدايا والتقادم
فاقام على ذلك حتى تولى محمد بك ابن اسمعيل بك امير الحاج فأخذ منه اجازة بعمار البلد الذي على البحر وشرع في تعمير الدور العظيمة والبساتين والسواقي والمعاصر والجوامع وذلك سنة 1134 واستقام حال سالم واشتهر ذكره وعظم صيته واستولى على خفارة البرين ونفذت كلمته بالبلاد البحرية من بولاق الى البغازين وصارت المراكب والرؤساء تحت حكمة وضرب عليها الضرائب والعوائد الشهرية والسنوية وانشأ الدواوير الواسعة والبستان الكبير بشاطيء النيل وكان عظيما جدا وعليه عدة سواق وغرس به اصناف النخيل والاشجار المتنوعة فكانت ثماره وفاكهته وعنبه تجتني بطول السنة واحضر لها الخولة من الشام ورشيد وغير ذلك
ولما وقعت الوقائع بين ذي الفقار بك ومحمد بك جركس المتقدم ذكرها وحضر جركس بمن معه من اللموم الى قرب المنشية وخرجت اليه عساكر مصر وارسلوا الى سالم بن حبيب فجمع العربان وحضر بفرسانه وعبيده الى ناحية الشيمي وحارب مع الأجناد المصرية حتى قتل سليمان بك في المعركة وولى جركس ورجعت التجريدة وتبعه سالم بن حبيب والأسباهية وذهبوا خلفه فعدى الشرق فعدوا خلفه وطلعت تجريدة اخرى من مصر فتلاقوا معهم وتحاربوا مع محمد بك جركس فكانت بينهم وقعة عظيمة فكانت الهزيمة على جركس وحصل ما حصل من وقوع جركس في الروبة وموته ودفنوه بناحية شرونه كما تقدم ورجع سالم بن حبيب بما غنمه في تلك الوقائع الى بلده واشتهر امره واشترى السراري البيض ولم يزل حتى توفي سنة 1151 وخلف ولدا يسمى عليا اشتهر ايضا بالفروسية والنجابة والشجاعة ولما مات سالم ترأس عوضه أخوه سويلم في مشيخة نصف سعد فسار بشهامة واشتهر ذكره وعظم صيته في الاقليم المصري زيادة عن أخيه سالم ووسع الدواوير والمجالس ولما سافر الامير عثمان بك الفقاري بالحج ورجع سنة احدى وخمسين المذكورة فارسل هدية الى سويلم المذكور وارسل له الآخر التقادم ثم ان الامير عثمان بك تغير خاطره على سويلم لسبب من الاسباب فركب عليه على حين غفلة ليلا وتعالى به الدليل ونزل على دجوة طلوع الشمس وكان الجاسوس سبق اليهم وعرفهم بركوب الصنجق عليهم فخرجوا من الدور ووقفوا على ظهور خيولهم بالغيط بعيدا عن البلد فلما حضر الصنجق ورمح على دورهم ورمى الطوائف بالرصاص فلم يجدوا أحدا
فلم يتعرض لنهب شيء ومنع الغز والطوائف عن اخذ شيء وبلغ خبر ركوب الصنجق عمر بك رضوان وابراهيم بك فركبا خلفه حتى وصلا اليه وسلما عليه فعرفهما انه لم يجدهم بالبلد فركب عمر بك وأخذ صحبته مملوكين فقط وسار نحو الغيط فرآهم واقفين على ظهور الخيل فلما عاينوه وعرفوه نزلوا عن الخيل وسلموا عليه فقال لهم لاي شيء تهربون من استاذكم وعرفهم انه اتى بقصد النزهة وأحضر صحبته علي بن سالم فقابل به الامير وقبل يده ورجع الى دواره وأحضر اشياء كثيرة من انواع المآكل حتى اكتفى الجميع
وعزموا عليهم تلك الليلة فبات الصنجق وباقي الامراء وذبح لهم اغناما كثيرة وعجلين جاموس وتعشى الجميع واخرجوا لهم في الصباح شيئا كثيرا من انواع الفطورات ثم قدم لهم خيولا صافنات وركبوا ورجعوا الى منازلهم ولما هرب ابراهيم بك قطامش في ايام محمد راغب باشا وكان سويلم مركونا عليه فجمع سويلم عرب بلي وضرب ناحية شبرا المعدية فوصل الخبر الى ابراهيم جاويش القازدغلي فأخذ فرمانا بضرب ناحية دجوة والخروج من حق اولاد حبيب فعين عليم ثلاثة صناجق وهم عثمان بك ابو يوسف واحمد بك كشك وآخر ووصلتهم النذيرة بذلك فوزعوا دبشهم وحريمهم في البلاد وركبوا خيولهم ونزلوا في الغيط ونزلت لهم التجريدة ومعهم الجبخانة والمحاربون وهجموا على البلد فوجدوها خالية
ولما رأى الحبايبة كثرة التجريدة فوسعوا وذهبوا الى ناحية الجبل الشرقي وارسل ابراهيم جاويش الى عثمان بك ابي سيف امير التجريدة بانه ينادي في البلاد عليهم ولم يدع احدا منهم ينزل الريف فركب عثمان بك وطاف بالبلاد يتجسس عليهم وظفر لهم بقومانية وذخيرة ذاهبة اليهم من الريف على الجمال فحجزها واخذها وذلك مرتين ورجع عثمان بك ومن معه الى مصر وصحبتهم ما وجدوه للحبايبة في البلاد من مواش وسكر وعسل واخشاب وهدموا جانبا من بيوتهم وكان علي بن سالم لم يذهب مع سويلم الى الجيل بل اخذ عياله وذهب عند اولاد فودة فلما سمع بالتقريظ على اصحاب الدرك فأتى الى مصر ودخل الى بيت ابراهيم جاويش وعرفه بنفسه وطلب منه الامان فعفا عنه بشرط ان لا يقرب دجوة ويسكن في اي بلد شاء يزرع مثل الناس ثم ان سويلما ومن معه ارسلوا الى حسين بك الخشاب بان يأخذ لهم امانا من ابراهيم جاويش ففعل وقبل شفاعة حسين بك بشرط ابطال حماية المراكب واذية بلاد الناس ويكفيهم الخفارة التي اخذوها بالقوة واستخلص لهم المواشي التي كان جمعها عثمان بك ابو سيف واستقر سويلم كما كان بدجوة وبنى له دورا عظيما ومقاعد مرتفعة شاهقة في العلو يحمل سقوفها عدة اعمدة وعليها بوائك مقوصرة ترى من مسافة بعيدة في البر والبحر وبها عدة مجالس ومخادع ولواوين وفسحات علوية وسفلية وجميعه مفروش بالبلاط الكدان وبنى بداخل ذلك الدوار مسجدا ومصلى وبداخل حوش الدوار مساطب ومنايف لاجناس الناس الآفاقية وغيرهم وبنى تحت ذلك الدوار بشاطيء النيل رصيفا متينا ومساطب يجلس عليها في بعض الاوقات وانشأ عدة مراكب تسمى الخرجات ولها شرفات وقلوع عظيمة وعليها رجال غلاظ شداد فاذا مرت بهم سفينة صاعدة أو حادرة صرخ عليها أولئك الرجال قائلين البرفان امتثلوا وحضروا وأخذوا منهم ما أحبوه من حمل السفينة وبضائع التجار وان تلكأوا في الحضور قاطعوا عليهم بالخرجات في أسرع وقت وأحضروهم صاغرين وأخذوا منهم أضعاف ما كان يؤخذ منهم لو حضروا طائعين من أول الامر وكان له قواعد واغراض وركائز واناس من الامراء وأعوانهم بمصر يراسلهم ويهاديهم فيذبون عنه ولا يسمعون فيه شكوى وله عدة من العبيد السود التجارية الفرسان ملازمين له مع كل واحد حرمدان مقلدية ملآن بالدنانير الذهب وكان لا يبيت في داره ويأتي في الغالب بعد الثلث الاخير فيدخل الى حريمه جصة ثم يخرج بعد الفجر فيعمل ديوانا ويحضر بين يديه عدة من الكتبة ويتقدم اليه ارباب الحاجات ما بين مشايخ بلاد واجناد وملتزمين وعرب وفلاحين وغير ذلك والجميع وقوف بين يديه والكتاب يكتبون الاوراق والمراسلات الى النواحي وغالب بلاد القليوبية والشرقية تحت حمايته وحماية أقاربه وأولاده ولهم فيها الشركاء والزروع والدواوير الواسعة المعروفة بهم والمميزة عن غيرها بالعظم والضخامة ولا يقدر ملتزم ولا قائمقام على تنفيذ امر مع فلاحيه الا باشارته أو باشارة من البلد في حمايته من اقاربه وكذلك مشايخ البلاد مع استاذيهم وكان لهم طرائق واوضاع في الملابس والمطاعم فيقول الناس سرج حبايبي وشال حبايبي ومركوب حبايبي الى غير ذلك وكان مع شدة مراسه وقوة بأسه يكرم الضيفان ويحب العلماء وارباب الفضائل ويأنس بهم ويتكلم معهم في المسائل ويؤاسيهم ويهاديهم وخصوصا ارباب المظاهر وكان انسانا حسنا وجيها محتشما مقتصرا على حاله وشأنه ملازما على قراءة الاوراد والمذاكرة ويحب اهل الفضل والصلاح ويتبرك بهم وبدعائهم وترددنا عليه وتردد الينا بمصر كثيرا وبلونا منه خيرا وحسن عشرة وكان معه أخوه شيخ العرب محمد علي مثل حاله ويزيد عنه الانجماع عن الناس لغير ما يعنيه ويعانيه في خاصة نفسه وكان ابوهما على نزل بقليوب بدار فيحاء وكان حسن الخلق والخلق وله حشم واتباع كثيرة وله هيبة عندهم وكان طيب السيرة فصيحا مفوها في حفظه أشعار ونوادر ولديه معرفة وكان يفهم المعنى ويحقق الالفاظ ويطالع الكتب ومقامات الحريري ونحو ذلك
ومات الامير المبجل علي كتخدا مستحفظان الخربطلي وهو من مماليك احمد كتخدا الخربطلي الذي جدد جامع الفاكهاني الذي بخط العقادين وصرف عليه من ماله مائة كيس وذلك في سنة 1148 واصله من بناء الفائز بالله الفاطمي وكان اتمامه في حادي عشر شوال من السنة المذكورة وكان المباشر على عمارته عثمان جلبي شيخ طائفة العقادين الرومي وفي تلك السنة ألبس مملوكه المترجم على أودة باشه الضلمة وجعله ناظرا ووصيا ومات سيده في واقعة محمد بك الدفتردار في جملة الاحد عشر اميرا المتقدم بيانهم وعمل جاويش في الباب ثم عمل كتخدا واشتهر ذكره بعد انقضاء دولة عثمان بك الغفاري واستقلال ابراهيم كتخدا ورضوان كتخدا الجلفي بامارة مصر وزوج ابنته لعلي بك الغزاوي وعمل لها فرحا عظيما ببركة الرطلي عدة ايام كانت من مقترحات مصر وبعد انقضاء ايام الفرح زفت العروس في زفة عظيمة اجتمع العالم من الرجال والنساء والصبيان للفرجة عليها ودخل بها علي بك المذكور وولد له منها حسن جلبي المشهور وانشأ علي كتخدا المترجم داره العظيمة برأس عطفة خشقدم جهة الباطنية وداره المطلة على بركة الرطلي والقصر على الخليج الناصري والقباب المعروفة به وغير ذلك ونفاه علي بك الى جهة قبلي كما تقدم فلما ذهب علي بك الى قبلي صالحه وانضوى اليه وكان هو السفير بينه وبين صالح بك في الصلح وبذل جهده في ذلك هو وخليل بك الاسيوطي حتى أتموه على الوجه المتقدم وحضر صحبته علي بك الى مصر وسكن بداره وأقبلت عليه الناس وقصدوه في الدعاوى والشكاوى وامن جانب علي بك واعتقد صداقته وظن انه قلده منته فلم يلبث الا أياما واخرجه منفيا الى رشيد ثم ارسل من خنقه هناك وكان اميرا جليلا وجيها جميل الصورة واسع العينين أبيض اللحية ضخما مهاب الشكل بهي الطلعة ودفن هناك
ومات الامير محمد بك ابو شنب وهو من مماليك علي بك وقتل في معركة اسيوط كما تقدم ودفن هناك وكان من الشجعان المعروفين
عجائب الآثار في التراجم والأخبار
المؤلف : عبد الرحمن بن حسن الجبرتي
مجلة نافذة ثقافية ـ البوابة