منتدى همسات الحموات

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    صيد الخاطر [ 10 ]

    avatar
    همسات
    Admin


    المساهمات : 1997
    تاريخ التسجيل : 18/02/2015

    صيد الخاطر [ 10 ] Empty صيد الخاطر [ 10 ]

    مُساهمة من طرف همسات الثلاثاء يناير 25, 2022 9:24 pm

    صيد الخاطر [ 10 ] Eslam_12

    بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
    مكتبة الثقافة الإسلامية
    صيد الخاطر
    صيد الخاطر [ 10 ] 1410
    ● [ فصل ] ●
    السعادة الحقة

    لقد غفل طلاب الدنيا عن اللذة فيها وما اللذة فيها إلا شرف العلم وزهرة العفة وأنفة الحمية، وعز القناعة، وحلاوة الإفضال على الخلق.
    فأما الالتذاذ بالمطعم والمنكح فشغل جاهل باللذة، لأن ذاك لا يراد لنفسه بل لإقامة العوض في البدن والولد.
    وأي لذة فى النكاح وهي قبل المباشرة لا تحصل.
    وفي حال المباشرة قلق لا يثبت.
    وعند انقضائها، كأن لم تكن، ثم تثمر الضعف في البدن.
    وأي لذة في جمع المال فضلاً عن الحاجة. فإنه مستعبد للخازن يبيت حذراً عليه، ويدعوه قليله إلى كثيره.
    وأي لذة في المطعم وعند الجوع يستوي خشنه وحسنه.
    فإن ازداد الأكل خاطر بنفسه.
    قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: بنيت الفتنة على ثلاث، النساء وهن فخ إبليس المنصوب. والشراب وهو سيفه المرهف. والدينار والدرهم، وهما سهماه المسمومان.
    فمن مال إلى النساء لم يصف له عيش. ومن أحب الشراب لم يمتع بعقله. ومن أحب الدينار والدرهم كان عبداً لهما ما عاش.
    ● [ فصل ] ●
    عالم الغيب
    أصل كل محنة في العقائد قياس أمر الخالق على أحوال الخلق.
    فإن الفلاسفة لما رأوا إيجاد شيء لا من شيء كالمستحيل في العادات قالوا بقدم العالم.
    ولما عظم عندهم في العادة الإحاطة بكل شيء قالوا: إنه يعلم الجمل لا التفاصيل.
    ولما رأوا تلف الأبدان بالبلاء أنكروا إعادتها. وقالوا الإعادة رجوع الأرواح إلى معادنها.
    وكل من قاس صفة الخالق على صفات المخلوقين خرج إلى الكفر.
    فإن المجسمة دخلوا في ذلك لأنهم حملوا أوصافه على ما يعقلون.
    وكذلك تدبيره عز وجل. فإن من حمله على ما يعقل في العادات رأى ذبح الحيوان لا يستحسن، والأمراض تستقبح، وقسمة الغنى للأبله، والفقر للجلد العاقل أمراً ينافي الحكمة.
    وهذا في الأوضاع بين الخلق. فأما الخالق سبحانه فإن العقل لا ينتهي إلى حكمته. بلى. قد ثبت عنده وجوده وملكه وحكمته.
    فتعرضه بالتفاصيل على ما تجري به عادات الخلق جهل.
    ألا ترى إلى أول المعترضين وهو إبليس كيف ناظر فقال " أنا خير منه " ، وقول خليفته وهو أبو العلاء المعري:
    رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا
    ونسأل الله عز وجل توفيقاً للتسليم، وتسليماً للحكيم " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا " .
    أترى نقدر على تعليل أفعاله فضلاً عن مطالعة ذاته ؟.
    وكيف نقيس أمره على أحوالنا ؟.
    فإذا رأينا نبينا صلى الله عليه وسلم يسأل في أمه وعمه فلا يقبل منه، ويتقلب جائعاً والدنيا ملك يده ويقتل أصحابه والنصر بيد خالقه، أوليس هذا مما يحير !.
    فما لنا والاعتراض على مالك قد ثبتت حكمته واستقر ملكه.
    ● [ فصل ] ●
    ثمن العلياء
    تأملت عجباً، وهو أن كل شيء نفيس خطير يطول طريقه ويكثر التعب في تحصيله.
    فإن العلم لما كان أشرف الأشياء لم يحصل إلا بالتعب والسهر والتكرار وهجر اللذات والراحة. حتى قال بعض الفقهاء: بقيت سنين أشتهي الهريسة لا أقدر، لأن وقت بيعها وقت سماع الدرس.
    ونحو هذا تحصيل المال، فإنه يحتاج إلى المخاطرات والأسفار والتعب الكثير.
    وكذلك نيل الشرف بالكرم والجود، فإنه يفتقر إلى جهاد النفس في بذل المحبوب، وربما آل إلى الفقر.
    وكذلك الشجاعة، فإنها لا تحصل إلا بالمخاطرة بالنفس. قال الشاعر:
    لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتال
    ومن هذا الفن تحصي الثواب في الآخرة. فإنه يزيد على قوة الاجتهاد والتعبد، أو على قدر وقع المبذول من المال في النفس، أو على قدر الصبر على فقد المحبوب ومنع النفس من الجزع.
    وكذلك الزهد يحتاج إلى صبر عن الهوى.
    والعفاف لا يكون إلا بكف كف الشره.
    ولولا ما عانى يوسف عليه السلام ما قيل له: " أيها الصديق " .
    ولله أقوام ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعها، فهم يبالغون في كل علم ويجتهدون في كل عمل، ويثابرون على كل فضيلة. فإذا ضعفت أبدانهم عن بعض ذلك قامت النيات نائبة وه لها سابقون.
    وأكمل أحوالهم إعراضهم عن أعمالهم. فهم يحتقرونها مع التمام ويعتذرون من التقصير.
    ومنهم من يزيد على هذا فيتشاغل بالشكر على التوفيق لذلك، ومنهم من لا يرى ما عمل أصلاً لأنه يرى نفسه وعمله لسيده.
    وبالعكس من المذكور عن أرباب الاجتهاد حال أهل الكسل والشره والشهوات.
    فلئن التذوا بعاجل الراحة لقد أوجبت ما يزيد على كل تعب من الأسف والحسرة وزن تلمح صبر يوسف عليه السلام وعجلة ماعز بان له الفرق، وفهم الربح من الخسران.
    ولقد تأملت نيل الدر من البحر فرأيته بع معاناة الشدائد.
    ومن تفكر فيما ذكرته مثلاً بانت له أمثال.
    فالموفق من تلمح قصر الموسم المعمول فيه، وامتداد زمان الجزاء الذي لا آخر له انتهب حتى اللحظة وزاحم كل فضيلة، فإنها إذا فاتت فلا وجه لاستدراكها.
    أو ليس في الحديث يقال للرجل: اقرأ وارق فمنزلك عند آخر آية تقرؤها.
    فلو أن الفكر عمل في هذا حق العمل حفظ القرآن عاجلاً.
    ● [ فصل ] ●
    صراع اليقين مع أحداث الحياة
    ليس المؤمن بالذي يؤدي فرائض العبادات صورة، ويتجنب المحظورات فحسب إنما المؤمن هو الكامل الإيمان، لا يختلج في قلبه اعتراض، ولا يساكن نفسه فيما يجري وسوسة.
    وكلما اشتد البلاء عليه زاد إيمانه وقوي تسليمه.
    وقد يدعو فلا يرى للإجابة أثراً، وسره لا يتغير لأنه يعلم أنه ممولك وله مالك يتصرف بمقتضى إرادته.
    فإنه اختلج في قلبه اعتراض خرج من مقام العبودية إلى مقام المناظرة، كما جرى لإبليس.
    والإيمان القوي يبين أثره عند قوة البلاء.
    فقد يرى مثل يحيى بن زكريا يتسلط عليه فاجر فيأمر بذبحه فيذبح، وربما اختلج في الطبع أن يقول فهل رد عنه من جعله نبياً ؟.
    وكذلك كل تسلط من الكفار على الأنبياء والمؤمنين وما وقع رد عنهم، فإنه هجس بالفكر أن القدرة تعجز عن الرد عنهم كان ذلك كفراً.
    وإن علم أن القدرة متمكنة من الرد وما ردت وأن الله قد يجيع المؤمنين ويشبع الكفار، ويعافي العصاة، ويمرض المتقين، لم يبق إلا التسليم للمالك وإن أمض وأرمض..
    وقد ذهب يوسف بن يعقوب عليهما السلام فبكى يعقوب ثمانين سنة ثم لم ييأس، فلما ابنه الآخر قال: " عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَميعاً " .
    وقد دعا موسى عليه السلام على فرعون، فأجيب بعد أربعين سنة.
    وكان يذبح الأنبياء ولا ترده القدرة القديمة العظيمة وصلب السحرة، وقطع أيديهم.
    وكم من بلية نزلت بمعظم القدر، فما زاده ذلك إلا تسليماً ورضىَ فهناك يبين معنى قوله: " وَرَضُوا عنه " .
    وههنا يظهر قدر قوة الإيمان لا في ركعات.
    قال الحسن البصري: استوى الناس في العافية فإذا نزل البلاء تباينوا.
    ● [ فصل ] ●
    هذا العلم أفسد العامة
    أضر ما على العوام المتكلمون فإنهم يخلطون عقائدهم بما يسمعونه منهم.
    من أقبح الأشياء أن يحضر العامي الذي لا يعرف أركان الصلاة ولا الربا في البيع مجلس الوعظ فلا ينهاه عن التواني في الصلاة، ولا يعلمه الخلاص من الربا، بل يقول له القرآن قائم بالذات، والذي عندنا مخلوق.
    فيهون القرآن عند ذلك العامي، فيحلف به على الكذب.
    ويح المتكلم لو كان له فهم لعلم أن الله سبحانه وتعالى نصب أعلاماً تأنس بها النفوس وتطمئن إليها كالكعبة وسماها بيته، والعرش وذكر استواءه عليه.
    وذكر من صفاته اليد والسمع والبصر والعين، وينزل إلى السماء الدنيا، ويضحك وكل هذا لتأنس النفوس بالعادات.
    وقد جل عما تضمنته هذه الصفات من الجوارح.
    وكذلك عظم أمر القرآن، ونهى المحدث أن يمس المصحف فآل الأمر بقوم من المتكلمين إلى أن أجازوا الاستنجاء به.
    فهؤلاء على معاندة الشريعة، لأنهم يهينون ما عظم الشرع.
    وهل الإيغال في الكلام مما يقرب إلى معرفة الحقائق التي لا يمكن خلافها !.
    هيهات لو كان كذلك ما وقع بين المتكلمين خلاف.
    أوليس الشرب الأول ما تكلموا في شيء من هذا ! وإن كانوا تعرضوا ببعض الأصول.
    ثم جاء فقهاء الأمصار فنهوا عن الخوض في الكلام، لعلمهم ما يجلب وما يجتنب.
    ومن لم يقنع بعقيدة مثل الصحابة، ولا بطريق مثل طريق أحمد والشافعي في ترك الخوض فلا كان من كان.
    ثم بالله تأملوا أليس قد وجب علينا هجر الربا بقوله تعالى: " لا تأكلوا الرِّبا " وهجر الزنا بقوله: " ولا تقربوا الزنا " .
    فأي فائدة لنا في ذكر قراءة ومقروء وتلاوة ومتلو وقديم ومحدث.
    فإن قيل: فلا بد من اعتقاد، قلنا: طريق السلف أوضح محجة، لأنا ما نقوله تقليداً، بل بالدليل ولكنا لم نستفده عن جوهر وعرض وجزء لا يتجزأ.
    بل بأدلة النقل مع مساعدة العقل من غير بحث عما لا يحتاج إليه. وليس هذا مكان الشرح.
    ● [ فصل ] ●
    حقيقة الموت
    ما زلت عن عادة الخلق في الحزن على من يموت من الأهل والأولاد، ولا أتخايل إلا بلى الأبدان في القبور فأحزن لذلك فمرت بي أحاديث قد كانت تمر بي ولا أتفكر فيها.
    منها قول النبي صلى الله عليه وسلم إنما نفس المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة حتى يرده الله عز وجل إلى جسده يوم يبعثه: فرأيت أن الرحيل إلى الراحة، وأن هذا البدن ليس بشيء، لأنه مركب تفكك وفسد، وسيبنى جديداً يوم البعث فلا ينبغي أن يتفكر في بلاه.
    ولتسكن النفس إلى أن الأرواح انتقلت إلى راحة فلا يبقى كبير حزن، وأن اللقاء للأحباب عن قرب.
    وإنما يبقى الأسف لتعلق الخلق بالصور، فلا يرى الإنسان إلا جسداً مستحسناً قد نقض فيحزن لنقضه.
    والجسد ليس هو الآدمي، وإنما هو مركبه، فالأرواح لا ينالها البلى. والأبدان ليست بشيء.
    واعتبر هذا بما إذا قلعت ضرسك ورميته في حفرة، فهل عندك خبر مما يلقى في مدة حياتك؟.
    فحكم الأبدان حكم ذلك الضرس، لا تدري النفس ما يلقى، ولا ينبغي أن تغتم بتمزيق جسد المحبوب وبلاه.
    واذكر تنعم الأرواح، وقرب التجديد، وعاجل اللقاء فإن الفكر في تحقيق هذا يهون الحزن ويسهل الأمر.
    ● [ فصل ] ●
    قد يكون الكتمان حزما
    ينبغي للعاقل أن لا يتكلم في الخلوة عن أحد بشيء حتى يمثل ذلك الشيء ظاهراً معلناً به ثم ينظر فيما يجني.
    فرب رجل وثق بصدق فتكلم أمامه عن سلطان بأمر فبلغه فأهلكه.
    أو عن صديق فبلغه فوقعت الواقعة.
    وكذلك ينبغي كتم المذاهب، فإنه ما يربح مظهرها إلا المعاداة.
    ولما صرح الشريف أبو جعفر في زمان المقتدي بمخالفة الأشاعرة أخذ وحبس حتى مات.
    وكان المقصد قطع الفتن وإصلاح الرعية، فإنه أهم إلى السلطان من التعصب لمذهب.
    ● [ فصل ] ●
    فقه الحكمة العليا
    رأيت كثيراً من المغفلين يظهر عليهم السخط بالأقدار.
    وفيهم من قل إيمانه، فأخذ يعترض.
    وفيهم من خرج إلى الكفر، ورأى أن ما يجري كالعبث، وقال ما فائدة الإعدام بعد الإيجاد، والابتلاء ممن هو غني عن أذانا.
    فقلت لبعض من كان يرمز إلى هذا: إن حضر عقلك وقلبك حدثتك.
    وإن كنت تتكلم بمجرد واقعك من غير نظر وإنصاف فالحديث معك ضائع.
    ويحك، أحضر عقلك، واسمع ما أقول: أليس قد ثبت أن الحق سبحانه مالك، وللمالك الحق أن يتصرف كيف يشاء !.
    أليس قد ثبت أنه حكيم والحكيم لا يعبث !.
    وأنا أعلم أن في نفسك من هذه الكلمة شيئاً فإنه قد سمعنا عن جالينوس أنه قال: ما أدري ؟ أحكيم هو أم لا.
    والسبب في قوله هذا، أنه رأى نقضاً بعد إحكام، فقاس الحال على أحوال الخلق وهو أن من بنى ثم نقض لا لمعنى فليس بحكيم.
    وجوابه لو كان حاضراً أن يقال: بماذا بان لك أن النقض ليس بحكمة ؟.
    أليس بعقلك الذي وهبه الصانع لك ؟.
    وكيف يهب لك الذهن الكامل ويفوته هو الكمال ؟.
    وهذه هي المحنة التي جرت لإبليس. فإنه أخذ يعيب الحكمة بعقله، فلو تفكر علم أن واهب العقل أعلى من العقل، وأن حكمته أوفى من كل حكيم، لأنه بحكمته التامة أنشأ العقول.
    فهذا إذا تأمله المنصف زال عنه الشك.
    وقد أشار سبحانه إلى نحو هذا في قوله تعالى: " أم لَهُ البنات ولكم البنون " أي أجعل لنفسه الناقصات وأعطاكم الكاملين ؟.
    فلم يبق إلا أن نضيف العجز عن فهم ما يجري إلى نفسنا.
    ونقول هذا فعل عالم حكيم. ولكن ما يبين لنا معناه.
    وليس هذا بعجب، فإن موسى عليه السلام خفي عليه وجه الحكمة في نقض السفينة الصحيحة، وقتل الغلام الجميل، فلما بين له الخضر وجه الحكمة أذعن.
    فليكن المرء مع الخالق كموسى مع الخضر.
    أولسنا نرى المائدة المستحسنة بما عليها من فنون الطعام النظيف الظريف يقطع ويمضغ ويصير إلى ما نعلم. ولسنا نملك ترك الأفعال ولا ننكر الإفساد له، لعلمنا بالمصلحة الباطنة فيه.
    فما المانع أن يكون فعل الحق سبحانه له باطن لا نعلمه ؟.
    ومن أجل الجهال العبد المملوك إذا طلب أن يطلع على سر مولاه، فإن فرضه التسليم لا الاعتراض.
    ولو لم يكن في الابتلاء بما تنكره الطباع إلا أن يقصد إذعان العقل وتسليمه لكفى.
    ولقد تأملت حالة عجيبة، يجوز أن يكون المقصود بالموت هي، وذلك أن الخالق سبحانه في غيب لا يدركه الإحساس.
    فلو أنه لم ينقض هذه البنية لتخايل للإنسان أنه صنع لا بصانع.
    فإذا وقع الموت عرفت النفس نفسها التي كانت لا تعرفها لكونها في الجسد وتدرك عجائب الأمور بعد رحيلها.
    فإذا ردت إلى البدن عرفت ضرورة أنها مخلوقة لمن أعادها.
    وتذكرت حالها في الدنيا - فإن الذكريات تعاد كما تعاد الأبدان - فيقول قائلهم " إنَّا كُنَّا قيلُ في أهلنا مُشْفِقين " .
    ومتى رأت ما قد وعدت به من أمور الآخرة. أيقنت يقيناً لا شك معه.
    ولا يحصل هذا بإعادة ميت سواها. وإنما يحصل برؤية هذا الأمر فيها.
    فتبنى بنية تقبل البقاء وتسكن جنة لا ينقضي دوامها.
    فيصلح بذلك اليقين أن تجاوز الحق، لأنها آمنت بما وعد، وصبرت بما ابتلى، وسلمت لأقدراه، فلم تعترض، ورأت في غيرها العبر، ثم في نفسها. فهذه هي التي يقال لها: " ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " .
    فأما الشاك والكافر فيحق لهما الدخول إلى النار واللبث فيها، لأنهما رأيا الأدلة ولم يستفيدا ونازعا الحكيم واعترضا عليه، فعاد شؤم كفرهما يطمس قلوبهما، فبقيت نفوسهما على ما كانت عليه.
    فلما لم تنتفع بالدليل في الدنيا لم تنتفع بالموت والإعادة ودليل بقاء الخبث في القلوب قوله تعالى: " ولو رُدُّوا لعادوا لما نهوا عنه " .
    فنسأل الله عز وجل عقلاً مسلماً يقف على حده، ولا يعترض على خالقه وموجده.
    ثم الويل للمعترض، أيرد اعتراضه الأقدار ؟.
    فما يستفيد إلا الخزي، نعوذ بالله ممن خذل.
    ● [ فصل ] ●
    عند الصباح يحمد السرى
    لا ينبغي للمؤمن أن ينزعج من مرض أو نزول موت، وإن كان الطبع لا يملك.
    إلا أنه ينبغي له التصبر مهما أمكن إما لطلب الأجر بما يعاني، أو لبيان أثر الرضى بالقضاء، وما هي إلا لحظات ثم تنقضي.
    وليتفكر المعافى من المرض في الساعات التي كان يقلق فيها أين هي في زمان العافية ؟ ذهب البلاء وحصل الثواب.
    كما تذهب حلاوة اللذات المحرمة ويبقى الوزر. ويمضي زمان التسخط بالأقدار، ويبقى العتاب.
    وهل الموت إلا آلام تزيد فتعجز النفس عن حملها فتذهب.
    فليتصور المريض وجود الراحة بعد رحيل النفس، وقد هان ما يلقى كما يتصور العافية بعد شرب الشربة المرة.
    ولا ينبغي أن يقع جزع بذكر البلى، فإن ذلك شأن المركب، أما الراكب ففي الجنة أو في النار.
    وإنما ينبغي أن يقع الاهتمام الكلي بما يزيد في درجات الفضائل قبل نزول المعوق عنها.
    فالسعيد من وفق لاغتنام العافية، ثم يختار تحصيل الأفضل فالأفضل في زمن الاغتنام.
    وليعلم أن زيادة المنازل في الجنة على قدر التزيد من الفضائل ههنا. والعمر قصير، والفضائل كثيرة فليبالغ في البدار.
    فيا طول راحة التعب، ويا فرحة المغموم، ويا سرور المحزون.
    ومتى تخايل اللذة في الجنة من غير منغص ولا قاطع، هان عليه كل بلاء وشدة.
    ● [ فصل ] ●
    بين العلم والعمل
    حضرنا يوماً جنازة شاب مات أحسن ما كانت الدنيا له، فرأيت من ذم الناس للدنيا، وعيب من سكن إليها، والتقبيح للغافلين عن الاستعداد لهذا المصرع أمراً كبيراً من الحاضرين.
    فقلت: نعم ما قلتم. ولكن اسمعوا مني ما لم تسمعوه.
    أعجب الأشياء أن العاقل إذا علم قرب هذا المصرع منه أوجب عليه عقله البدار بالعمل والقلق من الخوف.
    وقد اشتد ذلك بأقوام فهاموا في البراري، وطووا الأيام بالمجاعة، وداموا على سهر الليل، ولازموا المقابر، فهلكوا سريعاً.
    ولعمري إن ما خافوه يستحق أكثر من هذا الفعل.
    ولكن نرى العقل الذي أوجب هذا القلق قد أمر بما يوجب السكون، فقال: إنما خلق هذا البدن ليحمل النفس كما تحمل الناقة الراكب.
    ولا بد من التلطف بالناقة ليحصل المقصود من السير، ولا يحسن في العقل دوام السهر وطول القلق، لأنه يؤثر في البدن فيفوت أكثر المقصود.
    كيف وقد خلق بدن الآدمي خلقاً لطيفاً، فإذا هجر الدسم نشف الدماغ.
    وإذا دام على السهر قوي اليبس، وإذا لازم الحزم مرض القلب.
    فلا بد من التلطف بالبدن بتناول ما يصلحه وبالقلب بما يدفع الحزن المؤذي له.
    وإلا فمتى دام المؤذي عجل التلف. ثم يأتي الشرع بما قد قاله العقل، فيقول: إن لنفسك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، فصم وأفطر، وقم ونم.
    ويقول: كفى المرء إثماً أن يضيع من يقوت.
    ويحث على النكاح، ويرى دوام القلق واليبس يترك الزوجة كالأرملة، والولد اليتيم.
    ولا وجه للتشاغل بالعلم مع هذا القلق، ومن أراد مصداق ما قلته فليتأمل حالة الرسول صلى الله عليه وسلم.
    فإنه كان يعدل ما عنده من الخوف فيمازح، ويسابق عائشة، ويكثر من التزوج. وكان يتلطف ببدنه، فيختار الماء البائت ويحب الحلوى واللحم.
    ولولا مساكنة نوع غفلة لما صنف العلماء، ولا حفظ العلم، ولا كتب الحديث.
    لأن من يقول: ربما مت اليوم كيف يكتب وكيف يسمع ويصنف.
    فلا يهولنكم ما ترون من غفلة الناس عن الموت وعدم ذكره حق ذكره، فإنها نعمة من الله سبحانه بها تقوم الدنيا ويصلح الدين.
    وإنما تذم قوة الغفلة الموجبة للتفريط وإهمال المحاسبة للنفس، وتضييع الزمان في غير التزود، وربما قويت فحملت على المعاصي.
    فأما إذا كانت بقدر كانت كالملح في الطعام لا بد منه، فإن كثر صار الطعام زعافاً.
    فالغفلة تمدح إذا كانت بقدر كما بينا. ومتى زادت وقع الذم. فافهم ما قلته.
    ولا تقل فلان شديد اليقظة ما ينام الليل، وفلان غافل ينام أكثر الليل، فإن غفلة توجب مصلحة البدن والقلب لا تذم والسلام.
    ● [ فصل ] ●
    الإخلاص التام
    ما يكاد يحب الاجتماع بالناس إلا فارغ.
    لأن المشغول القلب بالحق يفر من الخلق ومتى تمكن فراغ القلب من معرفة الحق امتلأ بالخلق فصار يعمل لهم ومن أجله ويهلك بالرياء ولا يعلم.
    وإني لأتأمل على بعض من يتزي بالفقر والتصوف وهو يلبس ثياباً لا تساوي ديناراً، وعنده المال الكثير، وقد أمرع نفسه في المطاعم الشهية، وهو عامل بمقتضى الكبر والتصدر، فيتقرب إلى أرباب الدنيا، ويستذري أرباب العلم، ويزور أولئك دونهم.
    وإنما يرد ما يعطي ليشيع له اسم زاهد، فتراه يربي الناموس وهو في احتياله كثعلب، وفي نهوضه إلى أغراضه في الباطن كلب شري.
    فأقول: سبحان الله، ما يزهد إلا الثياب، أترى: ما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
    أوعوذ بالله من رؤية النفس، ورؤية الخلق، فإن من رأى نفسه تكبر، والمتكبر أحمق، لأنه ما من شيء يتكبر به إلا ولغيره أكثر منه.
    ومن راءى الخلق عبدهم وهو لا يعلم.
    فأما العامل لله سبحانه وتعالى فهو بعيد من الخلق، فإن تقربوا إليه ستر حاله بما يوجب بعدهم عنه.
    وقد رأينا من يرائي ولا يدري فيمتنع من المشي في السوق، ومن زيارة الإخوان، ومن أن يشتري شيئاً بنفسه.
    وتوهمه نفسه أني أكره مخالطة السوقة، وإنما هذا يربي جاهلاً بين العامة، إذ لو خالطهم لامتحي جاهه، وبطل تقبيل يده.
    وقد كان بشر الحافي يجلس في مجلس عند العطار.
    وأبلغ من هذا كله أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يشتري الشيء ويحمله، وخرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين فاشترى ثوباً، وقد كان طلحة بن مطرف قارىء أهل الكوفة، فلما كثر الناس عليه مشى إلى الأعمش فقرأ عليه، فمال الناس إلى الأعمش وتركوا طلحة.
    هذا والله الكبريت الأحمر، والإكسير، لا ما يظن إكسيراً في الكيمياء.
    والمعاملة مع الله تعالى هكذا تكون.
    فأما ضد هذه الحال فحالة عابد للخلق ملبس. وقد غم هذا جمهور الخلق حاشا السلف.
    أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
    ● [ فصل ] ●
    مراتب العصيان
    كل المعاصي قبيحة، وبعضها أقبح من بعض، فإن الزنا من أقبح الذنوب، فإنه يفسد الفرش ويغير الأنساب، وهو بالجارة أقبح، فقد روي في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: قلت يا رسول الله أي ذنب أعظم ؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قلت: ثم أي، قال: أن تقتل ولدك من أجل أن يطعم معك. قلت ثم أي، قال: أن تزاني حليلة جارك.
    وقد روى البخاري في تاريخه من حديث المقداد بن الأسود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر من أن يزني بامرأة جاره، ولأن يسرق من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره.
    وإنما كان هذا، لأنه يضم إلى معصية الله عز وجل انتهاك حق الجار.
    ومن أقبح الذنوب أن يزني الشيخ، ففي الحديث: إن الله يبغض الشيخ الزاني لأن شهوة الطبع قد ماتت، وليس فيها قوة تغلب، فهو يحركها ويبالغ، فكانت معصيته عناداً.
    ومن المعاصي التي تشبه المعاندة لبس الرجل الحرير والذهب، خصوصاً خاتم الذهب الذي يتحلى به الشيخ، وأنه من أبرد الأفعال وأقبح الخطايا.
    ومن هذا الفن الرياء والتخاشع وإظهار التزهد للخلق، فإنه كالعبادة لهم مع إهمال جانب الحق عز وجل.
    وكذلك المعاملة بالربا الصريح، خصوصاً من الغني الكثير المال.
    ومن أقبح الأشياء أن يطول المرض بالشيخ الكبير ولا يتوب من ذنب، لا يعتذر من زلة، ولا يقضي ديناً، ولا يوصي بإخراج حق عليه.
    ومن قبائح الذنوب أن يتوب السارق أو الظالم ولا يرد المظالم.
    والمفرط في الزكاة أو في الصلاة ولا يقضي.
    ومن أقبحها أن يحنث في يمين طلاقه ثم يقيم مع المرأة.
    وقس على ما ذكرته، فالمعاصي كثيرة، وأقبحها لا يخفى.
    وهذه المستقبحات فضلاً عن القبائح الأخرى تشبه العناد للآمر، فيستحق صاحبها اللعن ودوام العقوبة.
    وإني لأرى شرب الخمر من ذلك الجنس، لأنها ليس مشتهاة لذاتها، ولا لريحا ولا لطعمها فيما يذكر.
    إنما لذتها - فيما يقال - بعد تجرع مرارتها.
    فالإقدام على ما لا يدعو إليه الطبع إلى أن يصل التناول إلى اللذة معاندة.
    نسأل الله عز وجل إيماناً يحجز بيننا وبين مخالفته، وتوفيقاً لما يرضيه، فإنما نحن به وله.
    ● [ فصل ] ●
    آفة العلماء
    انتقدت على أكثر العلماء والزهاد أنهم يبطنون الكبر.
    فهذا ينظر في موضعه وارتفاع غيره عليه وهذا لا يعود مريضاً فقيراً يرى نفسه خيراً منه.
    حتى إني رأيت جماعة يومأ إليهم، منهم من يقول لا أدفن إلا في دكة أحمد بن حنبل، ويعلم أن في ذلك كسر عظام الموتى، ثم يرى نفسه أهلاً لذلك التصدر.
    ومنهم من يقول. ادفنوني إلى جانب مسجدي ظناً منه أنه يصير بعد موته مزاراً كمعروف الكرخي.
    وهذه خلة مهلكة ولا يعلمون.
    قال النبي صلى الله عليه وسلم: من ظن أنه خير من غيره فقد تكبر.
    وقل من رأيت إلا وهو يرى نفسه.
    والعجب كل العجب ممن يرى نفسه، أتراه بماذا رآها !.
    إن كان بالعلم فقد سبقه العلماء، وإن كان بالتعبد فقد سبقه العباد، أو بالمال فإن المال لا يوجب بنفسه فضيلة دينية.
    فإن قال: قد عرفت ما لم يعرف غيري من العلم في زمني، فما علي ممن تقدم.
    قيل له: ما نأمرك يا حافظ القرآن أن ترى نفسك في الحفظ كمن يحفظ النصف.
    ولا يا فقيه أن ترى نفسك في العلم كالعامي.
    إنما نحذر عليك أن ترى نفسك خيراً من ذلك الشخص المؤمن وإن قل علمه.
    فإن الخيرية بالمعاني لا بصور العلم والعبادة.
    ومن تلمح خصال نفسه وذنوبها علم أنه على يقين من الذنوب والتقصير، وهو من حال غيره على شك.
    فالذي يحذر منه الإعجاب بالنفس، ورؤية التقدم في أحوال الآخرة، والمؤمن الحق لا يزال يحتقر نفسه.
    وقد قيل لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إن مت ندفنك في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لأن ألقى الله بكل ذنب غير الشرك أحب إلي من أن أرى نفسي أهلاً لذلك.
    وقد روينا: أن رجلاً من الرهبان رأى في المنام قائلاً يقول له: فلان الإسكافي خير منك، فنزل من صومعته فجاء فسأله عن عمله فلم يذكر كبير عمله.
    فقيل له في المنام: عد إليه وقل له: مم صفرة وجهك ؟.
    فعاد فسأل فقال: ما رأيت مسلماً إلا وظننته خيراً مني فقيل له: فبذاك ارتفع.
    ● [ فصل ] ●
    علاج الغاضب
    متى رأيت صاحبك قد غضب وأخذ يتكلم بما لا يصلح، فلا ينبغي أن تعقد على ما يقوله خنصراً، ولا أن تؤاخذه به.
    فإن حاله حال السكران، لا يدري ما يجري.
    بل اصبر لفورته، ولا تعول عليها، فإن الشيطان قد غلبه، والطبع قد هاج، والعقل قد استتر.
    ومتى أخذت في نفسك عليه، أو أجبته بمقتضى فعله كنت كعاقل واجه مجنوناً، أو كمفيق عاتب مغمى عليه. فالذنب لك.
    بل انظر بعين الرحمة، وتلمح تصريف القدر له، وتفرج في لعب الطبع به. واعلم أنه إذا انتبه ندم على ما جرى، وعرف لك فضل الصبر.
    وأقل الأقسام أن تسلمه فيما يفعل في غضبه إلى ما يستريح به.
    وهذه الحالة ينبغي أن يتلمحها الولد عند غضب الوالد، والزوجة عند غضب الزوج، فتتركه يشتفي بما يقول، ولا تعول على ذلك، فسيعود نادماً معتذراً.
    ومتى قوبل على حالته ومقالته صارت العداوة متمكنة، وجازى في الإفاقة على ما فعل في حقه وقت السكر.
    وأكثر الناس على غير هذه الطريق.
    متى رأوا غضبان قابلوه بما يقول ويعمل، وهذا على غير مقتضى الحكمة؛ بل الحكمة ما ذكرته، " وما يعقلها إلاَّ العالمون " .
    ● [ فصل ] ●
    تجارب مع الناس
    ليس في الدنيا أكثر بلاهة ممن يسيء إلى شخص ويعلم أنه قد بلغ إلى قلبه بالأذى ثم يصطلحان في الظاهر، فيعلم أن ذلك الأثر محيي بالصلح.
    وخصوصاً مع الملوك، فإن لذتهم الكبرى أن لا يرتفع عليهم أحد، ولا ينكسر لهم غرض، فإذا جرى شيء من ذلك لم ينجبر.
    واعتبر هذا بأبي مسلم الخراساني، فإنه غض من قدر المنصور قبل ولايته فحصل ذلك في نفسه فقتله.
    ومن نظر في التواريخ رأى جماعة قد جرى لهم مثل هذا، ولا ينبغي لمن أساء إلى ذي سلطان أن يقع في يده، فإنه إذا رام التخلص لم يقدر. فيبقى ندمه على ترك احترازه، وحسرته على مساكنة الظمآن للسلامة أشد عليه من كل ما يلقى به من الهوان والأذى.
    ومن هذا الجنس الأصدقاء المتماثلون، فإنك متى آذيت شخصاً وبلغ إلى قلبه أذاك فلا تثق بمودته، فإن أذاك نصب عينه، فإن لم يحتل عليك لم يصف لك.
    ولا تخالط إلا من أنعمت عليه فحسب، فهو لم ير منك إلا خيراً فيكون في نفسه، وكذلك الولد والزوجة والمعاملون.
    ويلحق بهذا أن أقول: لا ينبغي أن تعادي أحداً ولا تتكلم في حقه، فربما صارت له دولة فاشتفى.
    وربما احتيج إليه فلم يقدر عليه.
    فالعاقل يصور في نفسه كل ممكن، ويستر ما في قلبه من البغض والود، ويداري من يكنون له الغيظ والحقد، هذه مشاورة العقل إن قبلت.
    ● [ فصل ] ●
    الاستعداد لليوم والغد
    كل من يتلمح العواقب ولا يستعد لما يجوز وقوعه فليس بكامل العقل.
    واعتبر هذا في جميع الأحوال، مثل أن يغتر بشبابه ويدوم على المعاصي ويسوف بالتوبة.
    فربما أخذ بغتة ولم يبلغ بعض ما أمل.
    وكذلك إذا سوف بالعمل أو بحفظ العلم، فإن الزمان ينقضي بالتسويف ويفوت المقصود.
    وربما عزم على فعل خير أو وقف شيء من ماله فسوف فبغت.
    فالعاقل من أخذ بالحزم في تصوير ما يجوز وقوعه وعمل بمقتضى ذلك فإن امتد الأجل لم يضره، وإن وقع المخوف كان محترزاً.
    ومما يتعلق بالدنيا أن يميل مع السلطان ويسيء إلى بعض حواشيه ثقة بقربه منه، فربما تغير ذلك السلطان فارتفع عدوه فانتقم منه.
    وقد يعادي بعض الأصدقاء ولا يبالي به لأنه دونه في الحالة الحاضرة.
    فربما صعدت مرتبة ذلك فاستوفى ما أسلفه إليه من القبيح وزاد.
    فالعاقل من نظر فيما يجوز وقوعه ولم يعاد أحداً.
    فإن كان بينهما ما يوجب المعاداة كتم ذلك، فإن صح له أن يثب على عدوه فينتقم منه انتقاماً يبيحه الشرع جاز، على أن العفو أصلح في باب العيش.
    ولهذا ينبغي أن يخدم البطال، فإنه ربما عمل فعرف ذلك لمن خدم.
    وقس على أنموذج ما ذكرته من جميع الأحوال.
    ● [ فصل ] ●
    علماء الآخرة ملوك
    بقدر صعود الإنسان في الدنيا تنزل مرتبته في الآخرة.
    وقد صرح بهذا ابن عمر رضي الله عنهما فقال: والله لا ينال أحد من الدنيا شيئاً إلا نقص من درجاته عند الله، وإن كان عنده كريماً.
    فالسعيد من اقتنع بالبلغة، فإن الزمان أشرف من أن يضيع في طلب الدنيا.
    اللهم إلا أن يكون متورعاً في كسبه، معيناً لنفسه عن الطمع، قاصداً إعانة أهل الخير والصدقة على المحتاجين، فكسب هذا أصلح من بطالته.
    فأما الصعود الذي سببه مخالطة السلاطين فبعيد أن يسلم معه الدين، فإن وقعت سلامته ظاهراً فالعاقبة خطرة.
    قال أبو محمد التميمي: ما غبطت أحداً إلا الشريف أبا جعفر يوم مات القائم بأمر الله فإنه غسله وخرج ينفض أكمامه فقعد في مسجده لا يبالي بأحد ونحن منزعجون لا ندري ما يجري علينا.
    وذاك أن التميمي كان متعلقاً على السلطان يمضي له في الرسائل، فخاف مغبة القرب.
    وقد رأينا جماعة من العلماء خالطوا السلطان فكانت مغبتهم سيئة.
    ولعمري إنهم طلبوا الراحة فأخطأوا طريقها، لأن غموم القلب لا توازيها لذة مال ولا لذة مطعم، هذا في الدنيا قبل الآخرة.
    وليس أشرف وأطيب عيشاً من منفرد في زاوية لا يخالط السلاطين ولا يبالي أطاب مطعمه أم لم يطب.
    فإنه لا يخلو من كسرة وقعب ماء ثم هو سليم من أن تقال له كلمة تؤذيه، أو يعيبه الشرع حين دخوله عليهم أو الخلق.
    ومن تأمل حال أحمد بن حنبل في انقطاعه، وحال ابن أبي داؤد، ويحيى بن أكثم عرف الفرق في طيب العيش في الدنيا والسلامة في الآخرة.
    وما أحسن ما قال ابن أدهم: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من لذيذ العيش لجالدونا عليه بالسيوف.
    ولقد صدق ابن أدهم، فإن السلطان إن أكل شيئاً خاف أن يكون قد طرح له فيه سم، وإن نام خاف أن يغتال، وهو وراء المغاليق لا يمكنه أن يخرج لفرجة، فإن خرج كان منزعجاً من أقرب الخلق إليه، واللذة التي ينالها تبرد عنده، ولا تبقي له لذة مطعم ولا منكح.
    وكلما استظرف المطاعم أكثر منها ففسدت معدته، وكلما استجد الجواري أكثر منهن فذهبت قوته، ولا يكاد يبعد ما بين الوطء والوطء فلا يجد في الوطء كبير لذة لأن لذة الوطء بقدر بعد ما بين الزمانين، وكذلك لذة الأكل.
    فإن من أكل على شبع ووطىء من غير صدق شهوة وقلق لم يجد اللذة التامة التي يجدها الفقير إذا جاع والعزب إذا وجد امرأة.
    ثم إن الفقير يرمي نفسه على الطريق في الليل فينام ولذة الأمن قد حرمها الأمراء فلذتهم ناقصة وحسابهم زائد.
    والله ما أعرف من عاش رفيع القدر بالغاً من اللذات ما لم يبلغ غيره إلا العلماء المخلصين كالحسن وأحمد وسفيان، والعباد المحققين كمعروف، فإن لذة العلم تزيد على كل لذة.
    وأما ضرهم إذا جاعوا أو ابتلوا بأذى، فإن ذلك يزيد في رفعتهم.
    وكذلك لذة الخلوة والتعبد. فهذا معروف، كان منفرداً بربه طيب العيش معه لذيذ الخلوة به.
    ثم قد مات منذ نحو أربعمائة سنة فما يخلو أن يهدي إليه كل يوم ما تقدير مجموعة أجزاء من القرآن.
    وأقله من يقل على قبره فيقرأ: " قل هو اللّه أحد " ، ويهديها له. والسلاطين تقف بين يدي قبره ذليلة.
    هذا بعد الموت، ويوم الحشر تنشر الكرامات التي لا توصف، وكذلك قبور العلماء المحققين.
    ولما بليت أقوام بمخالطة الأمراء أثر ذلك التكدير في أحوالهم كلها.
    فقال سفيان بن عيينة منذ أخذت من مال فلان الأمير منعت ما كان وهب لي من فهم القرآن.
    وهذا أبو يوسف القاضي لا يزور قبره اثنان.
    فالصبر عن مخالطة الأمراء وإن أوجب ضيق العيش من وجه يحصل طيب العيش من جهات.
    ومع التخليط لا يحصل مقصود. فمن عزم جزم.
    كان أبو الحسن القزويني لا يخرج من بيته إلا وقت الصلاة، فربما جاء السلطان فيقعد لانتظاره ليسلم عليه.
    ومد النفس في هذا ربما أضجر السامع، ومن ذاق عرف.
    ● [ فصل ] ●
    التزام الجادة
    من عرف الشرع كما ينبغي وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم وأحوال الصحابة وأكابر العلماء علم أن أكثر الناس على غير الجادة.
    وإنما يمشون مع العادة، يتزاورون فيغتاب بعضهم بعضاً، ويطلب كل واحد منهم عورة أخيه، ويحسده إن كانت نعمة، ويشمت به إن كانت مصيبة، ويتكبر عليه إن نصح له، ويخادعه لتحصيل شيء من الدنيا، ويأخذ عليه العثرات إن أمكن.
    هذا كله يجري بين المنتمين إلى الزهد لا الرعاع.
    فالأولى بمن عرف الله سبحانه، وعرف الشرع، وسير السلف الصالحين الانقطاع عن الكل.
    فإن اضطر إلى لقاء منتسب إلى العلم والخير تلقاه وقد لبس درع الحذر، ولم يطل معه الكلام، ثم عجل الهرب منه إلى مخالطة الكتب التي تحوي تفسيراً لنطاق الكمال.
    ● [ فصل ] ●
    كمال الخلق
    الكمال عزيز. والكامل قليل الوجود.
    فأول أسباب الكمال تناسب أعضاء البدن وحسن صورة الباطن.
    فصورة البدن تسمى خلقاً، وصورة الباطن تسمى خلقاً.
    ودليل كمال صورة البدن حسن الصمت، واستعمال الأدب.
    ودليل صورة الباطن حسن الطبائع والأخلاق.
    فالطبائع العفة، والنزاهة، والأنفة من الجهل، ومباعدة الشره.
    والأخلاق الكرم، والإيثار، وستر العيوب، وابتداء المعروف، والحلم عن الجاهل.
    فمن رزق هذه الأشياء رقته إلى الكمال، وظهر عنه أشرف الخلال، وإن نقصت خلة أوجبت النقص.
    ● [ فصل ] ●
    لا بد من الابتلاء
    ليس في الدنيا أبله ممن يريد معاملة الحق سبحانه على بلوغ الأغراض.
    فأين تكون البلوى إذن ؟.
    لا والله، لا بد من انعكاس المرادات ومن توقف أجوبة السؤالات، ومن تشفي الأعداء في أوقات.
    فأما من يريد أن تدم له السلامة والنصر على من يعاديه، والعافية من غير بلاء، فما عرف التكليف، ولا فهم التسليم.
    أليس الرسول صلى الله عليه وسلم ينصر يوم بدر ثم يجري عليه ما يجري يوم أحد.
    أليس يصد عن البيت ويقهر بعد ذلك.
    فلا بد من جيد ورديء، والجيد يوجب الشكر، والرديء يحرك إلى السؤال والدعاء.
    فإن امتنع الجواب، أريد نفوذ البلاء، والتسليم للقضاء.
    وههنا يبين الإيمان، ويظهر في التسليم جواهر الرجال.
    فإن تحقق التسليم باطناً وظاهراً فذلك شأن الكامل.
    وإن وجد في الباطن انعصار من القضاء لا من المقتضى فإن الطبع لا بد أن ينفر من المؤذي دل على ضعف المعرفة.
    فإن خرج الأمر إلى الاعتراض باللسان، فتلك حال الجهال نعوذ بالله منها.
    ● [ فصل ] ●
    لا بد من التصبر
    من الابتلاء العظيم إقامة الرجل في غير مقامه. مثل أن يحوج الرجل الصالح إلى مداراة الظالم والتردد إليه، وإلى مخالطة من لا يصلح، وإلى أعمال لا تليق به أو إلى أمور تقطع عليه مراده الذي يؤثره.
    فقد يقال للعالم: تردد على الأمير وإلا خفنا عليك سطوته، فيتردد فيرى ما لا يصلح له ولا يمكنه أن ينكر.
    أو يحتاج إلى شيء من الدنيا وقد منع حقه، فيحتاج أن يعرض بذكر ذلك، أو يصرح لينال بعض حقه، ويحتاج إلى مداراة من تصعب مداراته، بل تتشتت همته لتلك الضرورات.
    وكذلك يفتقر إلى الدخول في أمور لا تليق به، مثل أن يحتاج إلى الكسب فيتردد إلى السوق أو يخدم من يعطيه أجرته.
    وهذا لا يحتمله قلب المراقب لله سبحانه لأجل ما يخالطه من الأكدار.
    أو يكون له عائلة وهو فقير فيتفكر في إغنائهم، فيدخل في مداخل كلها عنده عظيمة.
    وقد يبتلى بفقد من يحب، أو ببلاء في بدنه، أو بعكس أغراضه وتسليط معاديه عليه، فيرى الغاسق يقهره. والظالم يذله.
    وكل هذه الأشياء تكدر عليه العيش، وتكاد تزلزل القلب.
    وليس في الابتلاء بقوة الأشياء إلا التسليم واللجأ إلى القدر في الفرج.
    يرى الرجل المؤمن الحازم يثبت لهذه العظائم، ولا يتغير قلبه، ولا ينطق بالشكوى لسانه.
    أو ليس الرسول صلى الله عليه وسلم يحتاج أن يقول: من يواريني من ينصرني. ويفتقر إلى أن يدخل مكة في جوار كافر.
    ويشق السلى على ظهره وتقتل أصحابه، ويداري المؤلفة، ويشتد جوعه وهو ساكن لا يتغير.
    وما ذاك إلا أنه علم أن الدنيا دار ابتلاء، لينظر الله فيها كيف تعملون.
    ومما يهون هذه الأشياء علم العبد بالأجر، وإن ذلك مراد الحق.
    فما لجرح إذا أرضاكم ألم.
    ● [ فصل ] ●
    داء الحرص عند العارفين
    لا ينكر أن الطباع تحب المال، لأنه سبب بقاء الأبدان، لكنه يزيد حبه في بعض القلوب حتى يصير محبوباً لذاته للتوصل به إلى المقاصد.
    فترى البخيل يحمل على نفسه العجائب، ويمنعها اللذات، وتصير لذاته في جمع المال. وهذه جبلة في خلق كثير.
    وليس العجب أن تكون في الجهال وينبغي أن يؤثر فيها عند العلماء المجاهدة للطبع ومخالفته، خصوصاً في الأفعال اللازمة في جمع المال.
    فأما أن يكون العالم جامعاً للمال من وجوه قبيحة ومن شبهات قوية وبحرص شديد وبذل في الطلب، ثم يأخذ من الزكوات ولا تحل له مع الغنى، ثم يدخره ولا ينفع به، فهذه بهيمية تخرج عن صفات الآدمية.
    بل البهيمية أعذر، لأنها بالرياضة تتغير طباعها، وهؤلاء ما غيرتهم رياضة، ولا أفادهم العلم.
    ولقد كان أبو الحسن البسطامي مقيماً في رباط البسطامي الذي على نهر عيسى، وكان لا يلبس إلا الصوف شتاء وصيفاً، وكان يحترم ويقصد، فخلف ما لا يزيد على أربعة آلاف دينار.
    ورأينا بعض أشياخنا وقد بلغ الثمانين وليس له أهل ولا ولد، وقد مرض فألقى نفسه عند بعض أصدقائه يتكلف له ذلك الرجل ما يشتهيه وما يشفيه، فمات فخلف أموالاً عظيمة.
    ورأينا صدقة بن الحسين الناسخ، وكان على الدوام يذم الزمان وأهله، ويبالغ في الطلب من الناس ويتجفف وهو في المسجد وحده ليس له من يقوم بأمره، فمات فخلف فيما قيل ثلاث مائة دينار.
    وكان يصحبنا أبو طالب بن المؤيد الصوفي. وكان يجمع المال، فسرق منه نحو مائة دينار، فتلهف عليها وكان ذلك سبب هلاكه.
    ومن أحوال الناس أنك ترى أقواماً جلسوا على صفة القوم يطلبون الفتوح، فيأتيهم منها الكثير الذي يصيرون به من الأغنياء، وهم لا يمتنعون من أخذ زكاة ولا من طلب.
    وكذلك القصاص، يخرجون إلى البلاد ويطلبون، فيحصل لهم المال الكثير، فلا يتركون الطلب عادة.
    فيا سبحان الله. أي شيء أفاد العلم. بل الجهل كان لهؤلاء أعذر.
    ومن أقبح أحوالهم لزومهم الأسباب التي تجلب لهم الدنيا من التخاشع والتنسك في الظاهر، وملازمة حث العزلة عن المخالطة، وكل هؤلاء بمعزل عن الشرع.
    ولقد تأملت على بعضهم من القدح في نظيره إلى أن يبلغ به إلى التعرض به للهلاك.
    فالويل لهم، ما أقل ما يتمتعون بظواهر الدنيا، وإن كان مقلب القلوب قد صرف القلوب عن محبتهم، لأن الحق عز وجل لا يميل بالقلوب إلا إلى المخلصين.
    فقد فاتتهم الدنيا على الحقيقة، وما حصلوا إلا صورة الحطام.
    نسأل الله عز وجل عقلاً يدبر دنيانا، ويحصل لنا آخرتنا، والرزاق قادر.
    ● [ فصل ] ●
    قليل ما هم
    ينبغي لمن عرف شرف الوجود أن يحصل أفضل الموجود.
    هذا العمر موسم. والتجارات تختلف. والعامة تقول: عليكم بما خف حمله وكثر ثمنه.
    فينبغي للمستيقظ أن لا يطلب إلا الأنفس.
    وأنفس الأشياء في الدنيا معرفة الحق عز وجل.
    فمن العارفين السالكين من وافى في طريقه بغيته في السفر، ومنهم من همته متعلقة بطلب ربحه، ومنهم من ينظر إلى ما يرضى الحبيب فيجلبه إلى بلد المعاملة، ويرضي بالقبول ثمناً، ويرى أن كل البضائع لا تفي بحق الحفاوة.
    ومنهم من يرى لزوم الشكر في اختياره هذا السلوك دون غيره فيقر بالعجز.
    وقد ارتفع قوم عن هذه الأحوال، فرأوا مجرد التوفيق يشغلهم عن النظر إلى العمل.
    أولئك الأقلون عدداً وإن الأعظمين قدراً أقل نسلاً من عنقاء مغرب.
    ● [ فصل ] ●
    أيها الشيوخ استعدوا للرحيل
    من علم قرب الرحيل عن مكة استكثر من الطواف خصوصاً إن كان لا يؤمل العود لكبر سنه وضعف قوته.
    فكذلك ينبغي لمن قاربه ساحل الأجل بعلو سنه أن يبادر اللحظات، وينتظر الهاجم بما يصلح له.
    فقد كان في قوس الأجل منزع زمان الشباب، واسترخى الوتر في المشيب عن سية القوس. فانحدر إلى القاب وضعفت القوى.
    وما بقي إلا الاستسلام لمحارب التلف، فالبدار البدار إلى التنظيف ليكون القدوم على طهارة.
    وأي عيش في الدنيا يطيب لمن أيامه السلمية تغذ به إلى الهلاك، وصعود عمره نزول عن الحياة، وطول بقائه نقص مدى المدة، فليتفكر فيما بين يديه، وهو أهم مما ذكرناه.
    أليس في الصحيح: ما منكم أحد إلا ويعرض عليه مقعده بالغداة والعشي من الجنة والنار فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله.
    فواأسفاً لمهدد، لم يحسن التأهب، ويا طيب عيش الموعود بأزيد المنى.
    وليعلم من شارف السبعين، أن النفس أنين، أعان الله من قطع عقبة العمر على رمل زرود الموت.

    صيد الخاطر [ 10 ] Fasel10

    كتاب : صيد الخاطر
    المؤلف : عبد الرحمن بن علي بن الجوزي
    منتدى ميراث الرسول - البوابة
    صيد الخاطر [ 10 ] E110


      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد نوفمبر 24, 2024 10:13 pm