بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة العقيدة
أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة
الفصل الثاني : الإيمان بالكتب المنزلة
● [ الفصل الثاني ] ●
الإيمان بالكتب المنزلة
يشتمل الفصل الثاني على تمهيد وأربعة مباحث :
تمهيد في تعريف الوحي لغة وشرعا وبيان أنواعه
المبحث الأول : حكم الإيمان بالكتب وأدلته .
المبحث الثاني : كيفية الإيمان بالكتب .
المبحث الثالث : بيان أن التوراة والإنجيل وبعض الكتب الأخرى دخلها التحريف وسلامة القرآن من ذلك.
المبحث الرابع : الإيمان بالقرآن وخصائصه .
[ تمهيد ]
في تعريف الوحي لغة وشرعا وبيان أنواعه
أولآ : التعريف اللغوي
في تعريف الوحي لغة وشرعا وبيان أنواعه
أولآ : التعريف اللغوي
الوحي في اللغة : هو الإعلام السريع الخفي.
ويطلق الوحي على : الإشارة ، والكتابة ، والرسالة ، والإلهام . وكل ما ألقيته على غيرك حتى علمه فهو وحي كيف كان وهو لا يختص بالأنبياء ولا بكونه من عند الله تعالى .
والوحي بمعناه اللغوي يتناول :
1 - الإلهام الفطري للإنسان كالوحي لأم موسى . قال تعالى : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ } (القصص : 7) .
2 - الإلهام الغريزي للحيوان كالوحي إلى النحل . قال تعالى : { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا } (النحل : 68) .
3 - الإشارة السريعة على سبيل الرمز والإيحاء ، كإيحاء زكريا لقومه . قال تعالى { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } (مريم : 11) .
4 - وسوسة الشيطان وتزيين الشر في نفوس أوليائه . قال تعالى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } (الأنعام : 121) .
5 - ما يلقيه الله تعالى إلى ملائكته من أمر ليفعلوه . قال تعالى : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } (الأنفال : 12).
ثانيآ : التعريف الشرعي
هو " إعلام الله أنبياءه بما يريد أن يبلغه إليهم من شرع أو كتاب بواسطة أو غير واسطة ".
ثالثآ : أنواع الوحي
لتلقي الوحي من الله تعالى طرق بينها الله تعالى بقوله في سورة الشورى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } (الشورى : 51) . فأخبر الله تعالى أن تكليمه ووحيه للبشر يقع على ثلاث مراتب :
● المرتبة الأولى : الوحي المجرد وهو ما يقذفه الله في قلب الموحى إليه مما أراد بحيث لا يشك فيه أنه من الله . ودليله قوله تعالى : { إِلَّا وَحْيًا } (الشورى : 51) . ومثال ذلك ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن روح القدس نفث في روعي لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب » أخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي وابن ماجه في سننه وغيرهم (1) . وألحق بعض أهل العلم بهذا القسم رؤى الأنبياء في المنام كرؤيا إبراهيم عليه السلام على ما أخبر الله عنه في قوله : { قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } (الصافات : 102) . وكرؤى النبي صلى الله عليه وسلم في بداية البعثة على ما روى الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : « أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح » (2).
● المرتبة الثانية : التكليم من وراء حجاب بلا واسطة كما ثبت ذلك لبعض الرسل والأنبياء كتكليم الله تعالى لموسى على ما أخبر الله به في أكثر من موضع من كتابه . قال تعالى : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } (النساء : 164) . وقال : { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } (الأعراف : 143) . وكتكليم الله لآدم . قال تعالى : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ } ( البقَرة : 37) . وكتكليم الله تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء على ما هو ثابت في السنة . ودليل هذه المرتبة من الآية قوله تعالى : { أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } ( الشورى : 51).
● المرتبة الثالثة : الوحي بواسطة الملك . ودليله قوله تعالى : { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } (الشورى : 51) . وهذا كنزول جبريل عليه السلام بالوحي من الله على الأنبياء والرسل .
والقرآن كله نزل بهذه الطريقة تكلم الله به ، وسمعه جبريل عليه السلام من الله عز وجل ، وبلغه جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم . قال تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ }{ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } (الشعراء : 192- 194) . وقال تعالى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } (النحل : 102) .
ولجبريل عليه السلام في تبليغه الوحي لنبينا صلى الله عليه وسلم ثلاثة أحوال :
1 - أن يراه الرسول صلى الله عليه وسلم على صورته التي خلق عليها ولم يحصل هذا إلا مرتين كما تقدم تقريره في الفصل السابق . (3) .
2 - أن يأتيه الوحي في مثل صلصلة الجرس فيذهب عنه وقد وعى الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال .
3 - أن يتمثل له جبريل في صورة رجل ويخاطبه بالوحي كما مر في حديث جبريل السابق في سؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عن مراتب الدين . (4).
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الحالتين الأخيرتين في إجابته للحارث بن هشام لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده علي ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال . وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول » (5) متفق عليه . ومعنى فصم : أي أقلع وانكشف.
_________
(1) موارد الظمآن (1084 ، 1085) ، والمستدرك (2 / 4) ، وسنن ابن ماجه (2144) ، وابن أبي الدنيا في القناعة ، والبيهقي في شعب الإيمان (المغني عن حمل الأسفار : 419 ، 895) والبغوي ج14 / 304 برقم (4112).
(2) صحيح البخاري برقم (3) ، وبنحوه في صحيح مسلم برقم (160).
(3) انظر ص113 .
(4) انظر ص106 .
(5) صحيح البخاري برقم (2) ، ومسلم برقم (2333) .
[ المبحث الأول ]
حكم الإيمان بالكتب وأدلته
اولآ : تعريف الكتب
حكم الإيمان بالكتب وأدلته
اولآ : تعريف الكتب
الكتب جمع كتاب . والكتاب مصدر كتب يكتب كتابا ، ثم سمي به المكتوب والكتاب في الأصل اسم للصحيفة مع المكتوب فيها كما في قوله تعالى : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ } (النساء : 153) يعني صحيفة مكتوباَ فيها .
والمراد بالكتب هنا : الكتب والصحف التي حوت كلام الله تعالى الذيَ أوحاه إلى رسله عليهم السلام . سواء ما ألقاه مكتوبا كالتوراة ، أو أنزله عن طريق الملك مشافهة فكتب بعد ذلك كسائر الكتب.
ثانيآ : حكم الإيمان بالكتب
الإيمان بكتب الله التي أنزل على رسله كلها ركن عظيم من أركان الإيمان وأصل كبير من أصول الدين ، لا يتحقق الإيمان إلا به . وقد دل على ذلك الكتاب والسنة.
فمن الكتاب قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } (النساء : 136) . فأمر الله عباده المؤمنين في الآية بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه . فأمرهم بالإيمان بالله ورسوله وهو محمد صلى الله عليه وسلم والكتاب الذي أنزل على رسوله وهو القرآن ، والكتاب الذي أنزل من قبل وهو جميع الكتب المتقدمة : كالتوراة ، والإنجيل ، والزبور ، ثم بين في ختام الآية أن من كفر بشيء من أركان الإيمان فقد ضل ضلالا بعيدا وخرج عن قصد السبيل ومن أركان الإيمان المذكورة الإيمان بكتب الله.
وقال تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } (البقرة : 177) . فأخبر عز وجل أن حقيقة البر : هو الإيمان بما ذكر من أركان الإيمان ، والعمل بخصال البر الواردة في الآية بعد هذا . وذكر من أركان الإيمان : " الإيمان بالكتاب " قال ابن كثير : هو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء . حتى ختمت بأشرفها ، وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب (1).
ولتقرير الإيمان بالكتب كلها أمر الله عباده المؤمنين أن يخاطبوا أهل الكتاب بقوله تعالى : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } (البقرة : 136) . فتضمنت الآية إيمان المؤمنين بما أنزل الله عليهم بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل على أعيان الرسل المذكورين في الآية ، وما أنزل على بقية الأنبياء في الجملة وأنهم لا يفرقون بين الرسل في الإيمان ببعضهم دون بعض فانتظم ذلك الإيمان بجميع الرسل وكل ما أنزل الله عليهم من الكتب.
والآيات في تقرير هذا من كتاب الله كثيرة .
وأما السنة فقد دلت كذلك على وجوب الإيمان بالكتب . وأن الإيمان بها ركن من أركان الإيمان ، دل على ذلك حديث جبريل ، وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم أركان الإيمان ، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم في إجابته : الإيمان بالكتب مع بقية أركان الإيمان . وقد تقدم الحديث بنصه في الفصل السابق فأغنى عن إعادته هنا (1) .
فتقرر بهذا وجوب الإيمان بالكتب والتصديق بها جميعها ، واعتقاد أنها كلها من الله تعالى أنزلها على رسله بالحق والهدى والنور والضياء ، وأن من كذب بها أو جحد شيئا منها فهو كافر بالله خارج من الدين.
_________
(1) تفسير ابن كثير 1 / 297 .
ثالثآ : ثمرات الإيمان بالكتب
وللإيمان بالكتب آثاره العظيمة على المؤمن فمن ذلك :
1- شكر الله تعالى على لطفه بخلقه وعنايته بهم حيث أنزل إليهم الكتب المتضمنة إرشادهم لما فيه خيرهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة .
2- ظهور حكمة الله تعالى حيث شرع في هذه الكتب لكل أمة ما يناسبها ، وكان خاتم الكتب القرآن العظيم مناسبا لجميع الخلق في كل عصر ومصر إلى قيام الساعة .
3- إثبات صفة الكلام لله تعالى وأن كلامه لا يشبه كلام المخلوقين ، وعجز المخلوقين عن الإتيان بمثل كلامه .
_________
(1) انظر ص106 .
[ المبحث الثاني ]
كيفية الإيمان بالكتب
كيفية الإيمان بالكتب
الإيمان بكتب الله يشتمل على عدة جوانب دلت النصوص على وجوب اعتقادها وتقريرها لتحقيق هذا الركن العظيم من أركان الإيمان . وهي :
1 - التصديق الجازم بأنها كلها منزلة من الله عز وجل ، وأنها كلام الله تعالى لا كلام غيره ، وأن الله تكلم بها حقيقة كما شاء وعلى الوجه الذي أراد سبحانه . قال تعالى : { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }{ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ }{ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } (آل عمران : 2- 4) .
فأخبر الله عز وجل أنه أنزل هذه الكتب المذكورة وهي : التوراة ، والإنجيل ، والقرآن من عنده وهذا يدل على أنه هو المتكلم بها وأنها منه بدأت لا من غيره ، ولذا توعد في نهاية السياق من كفر بآيات الله بالعذاب الشديد.
وقال مخبرًا عن التوراة { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } (المائدة : 44) فبين أنه تعالى هو الذي أنزل التوراة وأن ما فيها من الهدى والنور منه سبحانه . وقال تعالى في سياق آخر مبينًا أن التوراة من كلامه وذلك في معرض إخباره عن اليهود { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } (البقرة : 75) فكلام الله الذي سمعوه ثم حرفوه هو التوراة . قاله السُّدِّي وابن زيد وجمع من المفسرين .
وقال تعالى في الإنجيل { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ } (المائًدة : 47) أي من الأوامر والنواهي التي هي من كلام الله.
وقال في القرآن الكريم : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } ( هود : 1) . وقال تعالى مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } (النمل : 6) . وقال تعالى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ } (النحل : 102) . وقال تعالى { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } (التوبة : 6) . وإنما أمروا أن يسمعوا القرآن الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كلام الله على الحقيقة .
2 - الإيمان بأنها دعت كلها إلى عبادة الله وحده وقد جاءت بالخير والهدى والنور والضياء . قال تعالى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ } (آل عمران : 79) . فبين الله أنه ما ينبغي لأحد من البشر ، آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة ، أن يأمر الناس أن يتخذوه إلها من دون الله . وذلك أن كتب الله إنما جاءت بإخلاص العبادة لله وحده.
وقال تعالى مبينًا أن كتبه جاءت بالحق والهدى { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ }{ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ } (آل عمران : 3 ، 4) . وقال تعالى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } (البقرة : 213) . وقال تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } (المائًدة : 44) . وقال تعالى : { وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ } (المائدة : 46) . وقال تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ }{ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } (البقرة : 185) . إلى غير ذلك من الآيات المتضمنة أن كتب الله تعالى قد جاءت بالهدى والنور من الله تعالى.
3 - الإيمان بأن كتب الله يصدق بعضها بعضًا فلا تناقض بينها ولا تعارض كما قال تعالى في القرآن { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } (المائدة : 48) . وقال في الإنجيل : { وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ } (المائدة : 46) . فيجب الإيمان بهذا واعتقاد سلامة كتب الله من كل تناقض أو تعارض ، وهذا من أعظم خصائص كتب الله عن كتب الخلق وكلام الله عن كلام الخلق فإن كتب المخلوقين عرضة للنقص والخلل والتعارض كما قال تعالى في وصف القرآن { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } (النساء : 82) .
4 - الإيمان بما سمى الله عز وجل من كتبه على وجه الخصوص ، والتصديق بها ، وبإخبار الله ورسوله عنها . وهذه الكتب هي :
أ - التوراة : وهي كتاب الله الذي آتاه موسى عليه السلام . قال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ } (القصص : 43) . وفي حديث الشفاعة الطويل الذي أخرجه الشيخان من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا : ( . . . « فيأتون إبراهيم فيقول : لست هُنَاكم ويذكر خطيئته التي أصابها ولكن ائتوا موسى عبدًا آتاه الله التوراة وكلمه تكليما » (1) ، وقد ألقى الله التوراة على موسى مكتوبة في الألواح وفي ذلك يقول سبحانه { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ } (الأعراف : 145) . قال ابن عباس (يريد ألواح التوراة) . وفي حديث احتجاج آدم وموسى من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي : ( . . . « قال له آدم : يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده » أخرجاه في الصحيحين من طرق كثيرة (2) . والتوراة هي أعظم كتب بني إسرائيل وفيها تفصيل شريعتهم وأحكامهم التي أنزلها الله على موسى وقد كان على العمل بها أنبياء بني إسرائيل الذين جاءوا من بعد موسى كما قال تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ } (المائدة : 44) . وقد أخبر الله في كتابه عن تحريف اليهود للتوراة وتبديلها على ما سيأتي بسط هذا في المبحث القادم إن شاء الله .
ب - الإنجيل : وهو كتاب الله الذي أنزله على عيسى ابن مريم عليهما السلام . قال تعالى : { وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } (المائدة : 46) .
وقد أنزل الله الإنجيل مصدقا للتوراة وموافقا لها كما تقدم في الآية السابقة .
قال بعض العلماء (3) : لم يخالف الإنجيل التوراة إلا في قليل من الأحكام مما كانوا يختلفون فيه كما أخبر الله عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل : { وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } (آل عمران : 50) .
وقد أخبر الله تعالى في كتابه الكريم أن التوراة والإنجيل نصا على البشارة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم . قال تعالى { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ } (الأعراف : 157) .
وقد لحق الإنجيل من التحريف ما لحق التوراة ، كما سيأتي بيانه في المبحث القادم بحول الله .
ج - الزبور : وهو كتاب الله الذي أنزله على داود عليه السلام . قال تعالى : { وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا } (السماء : 163) . قال قتادة في تفسير الآية : " كنا نحدث أنه دعاء علمه الله داود وتحميد وتمجيد لله عز وجل ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود " .
د - صحف إبراهيم وموسى : وقد جاء ذكرها في موضعين من كتاب الله ، الأول في سورة النجم في قول الله تعالى : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى }{ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى }{ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }{ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } (النجم : 36-39) . والثاني في سورة الأعلى ، قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى }{ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى }{ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا }{ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى }{ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى }{ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } (الأعلى : 14- 19) . فأخبر الله عز وجل عن بعض ما جاء في هذه الصحف من وحيه الذي أنزله على رسوليه إبراهيم وموسى عليهما السلام . والعلم عند الله .
هـ - القرآن العظيم : وهو كتاب الله الذي أنزله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه ، وهو آخر كتب الله نزولا وأشرفها وأكملها ، والناسخ لما قبله من الكتب وقد كانت دعوته لعامة الثقلين من الإنس والجن . قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } (المائدة : 48) ومهيمنًا : أي شهيدًا على ما قبله من الكتب وحاكما عليها . وقال تعالى : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } (الأنعام : 19) . وقال عز وجل : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } (الفرقان : 1) . وللقرآن أسماء كثيرة أشهرها : القرآن ، والفرقان ، والكتاب ، والتنزيل ، والذكر .
فيجب الإيمان بهذه الكتب على ما جاءت به النصوص ، من ذكر أسمائها ، ومن أنزلت فيهم ، وكل ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها ، وما قُصَّ علينا من أخبار أهلها.
5 - الاعتقاد الجازم بنسخ جميع الكتب والصحف التي أنزلها الله على رسله ، بالقرآن الكريم ، وأنه لا يسع أحدًا من الإنس أو الجن ، لا من أصحاب الكتب السابقة ، ولا من غيرهم ، أن يعبدوا الله بعد نزول القرآن بغير ما جاء فيه أو يتحاكموا إلى غيره . والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة . قال تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } (الفرقان : 1) . وقال عز وجل : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ }{ يَهْدِي بِهِ }{ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } ( المائدة : 15 ، 16).
وقال تعالى آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين أهل الكتاب بالقرآن { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ } (المائدة : 48) . وقال أيضا { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } (المائدة : 49) .
ومن السنة حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال : « أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به ، أو بباطل فتصدقوا ، والذي نفسي بيده ، لو أن موسى كان حيا ، ما وسعه إلا أن يتبعني » رواه أحمد والبزار والبيهقي (4) وغيرهم وهو حديث حسن بمجموع طرقه . ومعنى متهوكون : متحيرون .
فهذا ما يجب اعتقاده في كتب الله على سبيل الإجمال وسيأتي تفصيل ما يجب اعتقاده في القرآن على وجه الخصوص في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى .
_________
(1) صحيح البخاري برقم (7410) ، ومسلم برقم (193) .
(2) صحيح البخاري برقم (6614) ، ومسلم برقم (2652) ، وفي إحداها : « وكتب لك التوراة بيده ».
(3) تفسير ابن كثير (2 / 36) .
(4) مسند الإمام أحمد : 3 / 387 ، وكشف الأستار : 134 ، وشعب الإيمان للبيهقي : (177) .
[ المبحث الثالث ]
بيان أن التوراة والإنجيل وبعض الكتب الأخرى المنزلة
دخلها التحريف وسلامة القرآن من ذلك
أولآ : تحريف أهل الكتاب لكلام الله
بيان أن التوراة والإنجيل وبعض الكتب الأخرى المنزلة
دخلها التحريف وسلامة القرآن من ذلك
أولآ : تحريف أهل الكتاب لكلام الله
أخبر الله عز وجل في القرآن الكريم عن تحريف أهل الكتاب لكتب الله المنزلة عليهم وتغييرها وتبديلها .
قال تعالى في حق اليهود : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (البقرة : 75) . وقال عز وجل : { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } (النساء : 46) .
وقال تعالى مخبرا عن النصارى : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ }{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } ( المائدة : 14 ، 15).
فدلت الآيات على تحريف اليهود والنصارى كتب الله المنزلة عليهم .
وقد كان هذا التحريف بالزيادة تارة وبالنقص تارة أخرى .
فدليل الزيادة قوله تعالى : { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } (البقرة : 79) .
ودليل النقص قوله تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ } (المائدة : 15) . وقوله تعالى : { قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا } (الأنعام : 91).
ثانيآ : تحريف التوراة والإنجيل وأدلة ذلك
هذا ما جاء في تحريف أهل الكتاب لكلام الله وكتبه في الجملة . وأما التوراة والإنجيل خاصة فقد دلت الأدلة مما تقدم وغيرها على وقوع التحريف فيهما.
● فمن أدلة تحريف التوراة قوله تعالى : { قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } (الأنعام : 91) . وجاء في تفسير الآية : (أي تجعلون الكتاب الذي جاء به موسى في قراطيس تضعونه فيها ليتم لكم ما تريدونه من التحريف والتبديل وكتم صفة النبي صلى الله عليه وسلم المذكورة فيه) .
وقال تعالى : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } (البقرة : 75) قال السدي في تفسير الآية : (هي التوراة حرفوها) . وقال ابن زيد : (التوراة التي أنزلها عليهم يحرفونها يجعلون الحلال فيها حراما والحرام فيها حلالا والحق فيها باطلا والباطل فيها حقا) .
● ودليل تحريف الإنجيل قوله تعالى : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى }{ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ }{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } (المائدة : 14-15) . قال بعض أئمة التفسير في تفسير الآية الأخيرة : (أي يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه وافتروا على اللهّ فيه ويسكت عن كثير مما غيروه ولا فائدة في بيانه (1) .
فدلت هذه الآيات على وقوع التحريف والتبديل في التوراة والإنجيل . ولهذا اتفق علماء المسلمين على أن التوراة والإنجيل قد دخلهما التحريف والتغيير.
ثالثآ : سلامة القرآن من التحريف وحفظ الله له وأدلة ذلك
أما القرآن العظيم فهو سليم مما طرأ على الكتب السابقة من التحريف والتبديل وهو محفوظ من كل ذلك بحفظ الله له وصيانته إياه كما أخبر الله عن ذلك بقوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (الحجر : 9) . قال الطبري في تفسير الآية : " قال وإنا للقرآن لحافظون من أن يزاد فيه باطل ما ليس منه ، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه (2) " . كما أخبر الله في آيات أخرى عن تمام إحكامه للقرآن وتفصيله وتنزيهه من كل باطل فقال عز من قائل : { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ }{ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } ( فصلت : 42) . وقال تعالى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } ( هود : 1) . وقال عز وجل : { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ }{ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } (القيامة : 16 ، 17).
فدلت هذه الآيات على كمال حفظ الله للقرآن لفظا ومعنى بدءا بنزوله إلى أن يأذن الله برفعه إليه سليما من كل تغيير أو تبديل . إذ تكفل بتعليمه لنبيه صلى الله عليه وسلم ، ثم جمعه في صدره وبيانه له وتفسيره في سنته المطهرة ، ثم ما هيأ الله له بعد ذلك من عدول الرجال الذين حفظوه في الصدور والسطور ، عبر الأجيال والقرون ، فبقي سليما منزها من كل باطل ، يقرؤه الصغار والكبار ، على مختلف الأعصار والأمصار ، غضا طريا كما أنزل من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم .
وقد نبه العلماء في هذا المقام إلى سر لطيف ونكتة بديعة تتعلق بجواز التحريف على التوراة وعدم جوازه على القرآن على ما روى أبو عمرو الداني عن أبي الحسن المنتاب قال : (كنت يوما عند القاضي أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق فقيل له : لم جاز التبديل على أهل التوراة ولم يجز على أهل القرآن ؟ فقال القاضي : قال الله عز وجل في أهل التوراة { بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ } (المائدة : 44) فوكل الحفظ إليهم فجاز التبديل عليهم . وقال في القرآن { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (الحجر : 9) فلم يجز التبديل عليهم . قال : فمضيت إلى أبي عبد الله المحاملي فذكرت له الحكاية فقال : " ما سمعت كلاما أحسن من هذا ".
_________
(1) تفسير ابن كثير 3 / 63 .
(2) تفسير ابن جرير 14 / 7 .
[ المبحث الرابع : الإيمان بالقرآن وخصائصه ]
تعريف القرآن والحديث القدسي والحديث النبوي والفرق بينهما
أولآ : القرآن الكريم
تعريف القرآن والحديث القدسي والحديث النبوي والفرق بينهما
أولآ : القرآن الكريم