همسات- Admin
- المساهمات : 1997
تاريخ التسجيل : 18/02/2015
من طرف همسات الخميس فبراير 11, 2021 10:42 am
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة الفقه الإسلامي
القواعد النورانية الفقهية
لأحمد بن تيمية
● [ ما تبقى من القاعدة الثانية ] ●
● [ فصل ] ●
والذين جوزوا المزارعة منهم من اشترط أن يكون البذر من المالك وقالوا هذه في المزارعة فإما إن كان البذر من العامل لم يجز وهذا إحدى الروايتين عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه وأصحاب مالك والشافعي حيث يجوزون المزارعة وحجة هؤلاء قياسها على المضاربة وبذلك احتج أحمد
أيضا قال الكرماني قيل لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رجل دفع أرضه إلى الأكار على الثلث و الربع قال لا بأس بذلك إذا كان البذر من رب الأرض و البقر و الحديد و العمل من الأكار يذهب فيه مذهب المضاربة
ووجه ذلك أن البذر هو أصل الزرع كما أن المال هو أصل الربح فلا بد أن يكون البذر ممن له الأصل ليكون من أحدهما العمل و من الآخر الأصل
و الرواية الثانية عنه لا يشترط ذلك بل يجوز أن يكون البذر من العامل وقد نقل عنه جماهير أصحابه أكثر من عشرين نفسا أنه يجوز أن يكرى أرضه بالثلث و الربع كما عامل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر
فقالت طائفة من أصحابه كالقاضي أبي يعلى إذا دفع أرضه لمن يعمل عليها ببذره بجزء من الزرع للمالك فإن كان على وجه الإجارة جاز و إن كان على وجه المزارعة لم يجز و جعلوا هذا التفريق تقريرا لنصوصه لأنهم رأوا في عامة نصوصه صرائح كثيرة جدا في جواز كراء الأرض بجزء من الخارج منها و رأوا أن هذا هو ظاهر مذهبه عندهم من أنه لا يجوز في المزارعة أن يكون البذر من المالك كالمضاربة ففرقوا بين باب المزارعة و المضاربة وباب الإجارة
وقال آخرون منهم أبو الخطاب معنى قوله في رواية الجماعة يجوز كراء الأرض ببعض الخارج منها أراد به المزارعة و العمل من الأكار قال أبو الخطاب و متبعوه فعلى هذه الرواية إذا كان البذر من العامل فهو مستأجر للأرض ببعض الخارج منها و إن كان من صاحب الأرض فهو مستأجر للعامل بما شرط له قال فعلى هذا ما يأخذه صاحب البذر يستحقه ببذره وما يأخذه من الأجرة يأخذه بالشرط
وما قاله هؤلاء من أن نصه على المكاري ببعض الخارج هو المزارعة على أن يبذر الأكار هو الصحيح ولا يحتمل الفقه إلا هذا و أن يكون نصه على جواز المؤاجرة المذكورة يقتضي جواز المزارعة بطريق الأولى وجواز هذه المعاملة مطلقا هو الصواب الذي لا يتوجه غيره أثرا و نظرا وهو ظاهر نصوص أحمد المتواترة عنه و اختيار طائفة من أصحابه
و القول الأول قول من اشترط أن يبذر رب الأرض وقول من فرق بين أن يكون إجارة أو مزارعة هو في الضعف نظير من سوى بين الإجارة الخاصة و المزارعة أو أضعف
أما بيان نص أحمد فهو أنه إنما جوز المؤاجرة ببعض الزرع استدلالا بقصة معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر و معاملته لهم إنما كانت مزارعة لم تكن بلفظ الإجارة فمن الممتنع أن أحمد لا يجوز ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم إلا بلفظ الإجارة و يمنع فعله باللفظ المشهور
و أيضا فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم شارط أهل خيبر على أن يعملوها من أموالهم كما تقدم ولم يدفع إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بذرا فإذا كانت المعاملة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانوا يبذرون فيها من أموالهم فكيف يحتج بها أحمد على المزارعة ثم يقيس عليها إذا كانت بلفظ الإجارة ثم يمنع الأصل الذي احتج به من المزارعة التي بذر فيها العامل و النبي صلى الله عليه وسلم قد قال لليهود نقركم فيها ما أقركم الله لم يشترط مدة معلومة حتى يقال كانت إجارة لازمة لكن أحمد حيث قال في إحدى الروايتين إنه يشترط كون البذر من المالك فإنما قاله متابعة لمن أوجبه قياسا على المضاربة و إذا أفتى العالم بقول لحجة ولهما معارض راجح لم يستحضر حينئذ ذلك المعارض الراجح ثم لما أفتى بجواز المؤاجرة بثلث الزرع استدلالا بمزارعة خيبر فلا بد أن يكون في خيبر كان البذر عنده من العامل و إلا لم يصح الاستدلال فإن فرضنا أن أحمد فرق بين المؤاجرة بجزء من الخارج و بين المزارعة ببذر العامل كما فرق بينهما طائفة من أصحابه فمستند هذا الفرق ليس مأخذا شرعيا فإن أحمد لا يرى اختلاف أحكام العقود باختلاف العبارات كما يراه طائفة من أصحابه الذين يجوزون هذه المعاملة بلفظ الإجارة و يمنعونها بلفظ المزارعة و كذلك يجوزون بيع ما في الذمة بيعا حالا بلفظ البيع و يمنعونه بلفظ السلم لأنه يصير سلما حالا و نصوص أحمد و أصوله تأبى هذا كما قدمناه عنه في مسألة صيغ العقود فإن الاعتبار في جميع التصرفات القولية بالمعاني لا بما يحمل على الألفاظ كما شهد به أجوبته في الأيمان و النذور و الوصايا و غير ذلك من التصرفات و إن كان هو قد فرق بينهما كما فرق طائفة من أصحابه فيكون هذا التفريق رواية عنه مرجوحة كالرواية المانعة من الأمرين
و أما الدليل على جواز ذلك فالسنة و الإجماع و القياس
أما السنة فما تقدم من معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر على أن يعتملوها من أموالهم ولم يدفع إليهم بذرا ولما عامل المهاجرون و الأنصار على أن البذر من عندهم قال حرب الكرماني حدثنا محمد بن نصر حدثنا حسان بن إبراهيم عن حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن حكيم أن عمر بن الخطاب أجلى أهل نجران و أهل فدك و أهل خيبر و استعمل يعلى بن منية فأعطى العنب و النخل على أن لعمر الثلثين و لهم الثلث و أعطى البياض يعني بياض الأرض على إن كان البذر و البقر و الحديد من عند عمر فلعمر الثلثان و لهم الثلث وإن كان منهم فلعمر الشطر ولهم الشطر فهذا عمر رضي الله عنه و يعلى بن منية عامله صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عمل في خلافته بتجويز كلا الأمرين أن يكون البذر من رب الأرض وأن يكون من العامل وقال حرب حدثنا أبو معن حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن الحارث بن حصيرة الأزدي عن صخر بن الوليد عن عمرو بن صليع بن محارب قال جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال إن فلانا أخذ أرضا فعمل فيها و فعل فدعاه فقال ما هذه الأرض التي أخذت فقال أرض أخذتها أكرى أنهارها وأعمرها و أزرعها فما أخرج الله من شيء فلي النصف وله النصف فقال لا بأس بهذا فظاهره أن البذر من عنده ولم ينهه علي عن ذلك ويكفي إطلاق سؤاله و إطلاق علي الجواب
و أما القياس فقد قدمنا أن هذه المعاملة نوع من الشركة ليست من الإجارة الخاصة و إن جعلت إجارة فهي من الإجارة العامة التي تدخل فيها الجعالة و السبق والرمي وعلى التقديرين فيجوز أن يكون البذر منهما و ذلك أن البذر في المزارعة ليس من الأصول التي ترجع إلى ربها كالثمن في المضاربة بل البذر يتلف كما تتلف المنافع و إنما ترجع الأرض أو بدن البقرة و العامل فلو كان البذر مثل رأس المال لكان الواجب أن يرجع مثله إلى مخرجه ثم يقتسمان الفضل و ليس الأمر كذلك بل يشتركان في جميع الزرع فظهر أن الأصول فيها من أحد الجانبين هي الأرض بمائها و هوائها و بدن العامل و البقر و اكتراء الحرث و البقر يذهب كما تذهب المنافع و كما تذهب أجزاء من الماء و الهواء والتراب فيستحيل زرعا و الله سبحانه يخلق الزرع من نفس الحب التراب و الماء و الهواء كما يخلق الحيوان من ماء الأبوين بل ما يستحيل في الزرع من أجزاء الأرض أكثر مما يستحيل من الحب و الحب يستحيل فلا يبقى بل يفلقه الله و يحيله كما يحيل أجزاء الماء و الهواء و كما يحيل المني و سائر مخلوقاته من الحيوان و المعدن و النبات وقع ما وقع من رأي كثير من الفقهاء اعتقدوا أن الحب و النوى في الزرع و الشجر هو الأصل و الباقي تبع حتى قضوا في مواضع بأن يكون الزرع و الشجر لرب النوى و الحب مع قلة قيمته و لرب الأرض أجرة أرضه
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما قضى بضد هذا حيث قال من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته فأخذ أحمد و غيره من فقهاء الحديث بهذا الحديث و بعض من أخذ به يرى أنه خلاف القياس و أنه من صور الاستحسان وهذا لما انعقد في نفسه من القياس المتقدم وهو أن الزرع تبع للبذر و الشجر تبع للنوى وما جاءت به السنة هو القياس الصحيح الذي تدل عليه الفطرة فإن إلقاء الحب في الأرض بمنزلة إلقاء المني في الرحم سواء ولهذا تبع الولد الآدمي أمه في الحرية و الرق دون أبيه ويكون الجنين البهيم لمالك الأم دون مالك الفحل الذي نما عن عسبه و ذلك لأن الأجزاء التي استمدها من الأم أضعاف الأجزاء التي استمدها من الأب و إنما للأب حق الابتداء فقط ولا ريب أنه مخلوق منهما جميعا و كذلك الحب و النوى فإن الأجزاء التي خلق منها الشجر و الزرع أكثرها من التراب و الماء و الهواء وقد يؤثر ذلك في الأرض فيتضعف بالزرع فيها لكن لما كانت هذه الأجزاء تستخلف دائما فإن الله سبحانه لا يزال يمد الأرض بالماء و الهواء و بالتراب إما مستحيلا من غيره و إما بالموجود ولا يؤثر في الأرض نقص الأجزاء الترابية شيئا إما للخلف بالاستحالة و أما للكثرة لهذا صار يظهر أن أجزاء الأرض في معنى المنافع بخلاف الحب و النوى الملقى فيها فإنه عين ذاهبة غير مستخلفة ولا يعوض عنها لكن هذا القدر لا يوجب أن يكون البذر هو الأصل فقط فإن العامل هو و بقره لا بد له مدة العمل من قوت و علف يذهب أيضا ورب الأرض لا يحتاج إلى مثل ذلك ولذلك اتفقوا على أن البذر لا يرجع إلى ربه كما يرجع في القراض و لو جرى عندهم مجرى الأصول لرجع
فقد تبين أن هذه المعاملة اشتملت على ثلاثة أشياء أصول باقية وهي الأرض بدن العامل و البقر و الحديد و منافع فانية و أجزاء فانية أيضا وهي البذر و بعض أجزاء الأرض و بعض أجزاء العامل وبقره فهذه الأجزاء الفانية كالمنافع الفانية سواء فتكون الخيرة إليهما فيمن يبذل هذه الأجزاء و يشتركان على أي وجه شاءا ما لم يفض إلى ما نهى عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع الغرر أو الربا و أكل المال بالباطل ولهذا جوز أحمد سائر أنواع المشاركات التي تشبه المساقاة والمزارعة مثل أن يدفع دابته أو سفينته أو غيرهما إلى من يعمل عليها والأجرة بينهما
● [ فصل ] ●
وهذا الذي ذكرناه من الإشارة إلى حكمة بيع الغرر وما يشبه ذلك يجمع 8 اليسر في هذه الأبواب فإنك تجد كثيرا ممن تكلم في هذه الأمور إما أن يتمسك بما بلغه من ألفاظ يحسبها عامة أو مطلقة أو بضرب من القياس المعنوي أو الشبهى فرضى الله عن أحمد حيث يقول ينبغى للمتكلم في الفقه أن يجتنب هذين الأصلين المجمل والقياس وقال أيضا أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس ثم هذا التمسك يفضى إلى مالا يمكن اتباعه ألبتة
ومن هذا الباب بيع الديون دين السلم وغيره وأنواع من الصلح والوكالة وغير ذلك ولولا أن الغرض ذكر قواعد كلية تجمع أبوابا لذكرنا أنواعا من هذا
● [ القاعدة الثالثة في العقود ] ●
القاعدة الثالثة في العقود والشروط فيها فيما يحل منها ويحرم وما يصح منها ويفسد ومسائل هذه القاعدة كثيرة جدا
والذى يمكن ضبطه فيها قولان أحدهما أن يقال الأصل في العقود والشروط فيها ونحو ذلك الحظر إلا ماورد الشرع باجازته فهذا قول أهل الظاهر وكثير من أصول أبي حنيفة تنبنى على هذا وكثير من أصول الشافعي وطائفة من أصول أصحاب مالك وأحمد فإن أحمد قد يعلل أحيانا بطلان العقد بكونه لم يرد فيه أثر ولا قياس كما قاله في إحدى الروايتين في وقف الإنسان على نفسه وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد ويقولون ما خالف مقتضى العقد فهو باطل أما أهل الظاهر فلم يصححوا
لا عقد ولا شرطا إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع وإذا لم يثبت جوازه أبطلوه واستصحبوا الحكم الذى قبله وطردوا ذلك طردا جاريا لكن خرجوا في كثير منه إلى أقوال ينكرها عليهم غيرهم
وأما أبو حنيفة فأصوله تقتضي أنه يصحح في العقود شروطا يخالف مقتضاها في المطلق وإنما يصحح الشرط في المعقود عليه إذا كان العقد مما يمكن فسخه ولهذا أبطل أن يشترط في البيع خيار ولا يجوز عنده تأخير تسليم المبيع بحال ولهذا منع بيع العين المؤجرة وإذا ابتاع شجرة عليها ثمر للبائع فله مطالبته بإزالته وإنما جوز الإجارة المؤخرة لأن الإجارة عنده لا توجب الملك إلا عند وجود المنفعة أو عتق العبد المبيع أو الانتفاع به أو أن يشترط المشترى بقاء الثمر على الشجر وسائر الشروط التي يبطلها غيره ولم يصحح في النكاح شرطا أصلا لأن النكاح عنده لا يقبل الفسخ ولهذا لا ينفسخ عنده بعيب أو إعسار أو نحوهما ولا يبطل بالشروط الفاسدة مطلقا وإنما صحح أبو حنيفة خيار الثلاثة الأيام للأثر وهو عنده موضع استحسان
والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل لكنه يستثني مواضع للدليل الخاص فلا يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاث ولا استثناء منفعة المبيع و نحو ذلك مما فيه تأخير تسليم المبيع حتى منع الإجارة المؤخرة لأن موجبها وهو القبض لا يلي العقد ولا يجوز أيضا ما فيه منع المشتري من التصرف المطلق إلا العتق لما فيه من السنة و المعنى لكنه يجوز استثناء المنفعة بالشرع كبيع العين المؤجرة على الصحيح في مذهبه و كبيع الشجر مع استيفاء الثمرة مستحقة البقاء و نحو ذلك و يجوز في النكاح بعض الشروط دون بعض ولا يجوز اشتراطها دارها أو بلدها ولا أن يتزوج عليها ولا يتسرى ويجوز اشتراط حريتها و إسلامها و كذلك سائر الصفات المقصودة على الصحيح من مذهبه كالجمال و نحوه وهو ممن يرى فسخ النكاح بالعيب و الإعسار و انفساخه بالشروط التي تنافيه كاشتراط الأجل و الطلاق و نكاح الشغار بخلاف فساد المهر و نحوه
وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي كالخيار أكثر من ثلاث و كاستثناء البائع منفعة المبيع و اشتراط المرأة على زوجها أن لا ينقلها و لا يزاحمها بغيرها ونحو ذلك من المصالح فيقولون كل شرط ينافي مقتضى العقد فهو باطل إلا إذا كان فيه مصلحة المتعاقدين
وذلك أن نصوص أحمد تقتضي أنه جوز من الشروط في العقود أكثر مما جوزه الشافعي فقد يوافقونه في الأصل و يستثنون للمعارض أكثر مما استثنى كما قد يوافق هو أبا حنيفة في الأصل و يستثني أكثر مما يستثني للمعارض
وهؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر و يتوسعون في الشروط أكثر منهم لقولهم بالقياس و المعاني و آثار الصحابة و لما يفهمونه من معاني النصوص التي ينفردون بها عن أهل الظاهر و عمدة هؤلاء قصة بريرة المشهورة وهو ما خرجاه في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت جاءتني بريرة فقالت كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني فقلت إن أحب أهلك أن أعدها لهم و يكون ولاؤك لي فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم و رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال خذيها و اشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق ففعلت عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل و إن كان مائة شرط قضاء الله أحق و شرط الله أوثق و إنما الولاء لمن أعتق وفي رواية للبخاري اشتريها فأعتقيها و ليشترطوا ما شاءوا فاشترتها فأعتقتها و اشترط أهلها ولاءها فقال النبي صلى الله عليه وسلم الولاء لمن أعتق و إن اشترطوا مائة شرط وفي لفظ شرط الله أحق و أوثق وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن عائشة أم المؤمنين أرادت أن تشتري جارية لتعتقها فقال أهلها نبيعكها على أن ولائها لنا فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا يمنعنك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أرادت عائشة أن تشتري جارية فتعتقها فأبى أهلها إلا أن يكون لهم الولاء فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( لا يمنعك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق )
ولهم من هذا الحديث حجتان
إحداهما قوله ( ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ) فكل شرط ليس في القرآن ولا في الحديث ولا في الإجماع فليس في كتاب الله بخلاف ما كان في السنة أو في الإجماع فإنه في كتاب الله بواسطة دلالته على اتباع السنة و الإجماع
ومن قال بالقياس وهم الجمهور قالوا إذا دل على صحته القياس المدلول عليه بالسنة أو بالإجماع المدلول عليه بكتاب الله فهو في كتاب الله
و الحجة الثانية أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي موجب العقد على اشتراط الولاء لأن العلة فيه كونه مخالفا لمقتضى العقد و ذلك لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع فيعتبر تغييرها تغييرا لما أوجبه الشرع بمنزلة تغيير العبادات وهذا نكتة القاعدة وهي أن العقود مشروعة على وجه فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغيير للمشروع و لهذا كان أبو حنيفة و مالك و الشافعي في أحد القولين لا يجوزون أن يشترط في العبادات شرطا يخالف مقتضاها فلا يجوزون للمحرم أن يشترط الإحلال بالعذر متابعة لعبد الله بن عمر حيث كان ينكر الاشتراط في الحج و يقول أليس حسبكم سنة نبيكم وقد استدلوا على هذا الأصل بقوله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم } وقوله { ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون }
قالوا فالشروط و العقود التي لم تشرع تعد لحدود الله و زيادة في الدين
و ما أبطله هؤلاء من الشروط التي دلت النصوص على جوازها بالعموم أو بالخصوص قالوا ذلك منسوخ كما قاله بعضهم في شروط النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين عام الحديبية أو قالوا هذا عام أو مطلق فيخص بالشرط الذي في كتاب الله
واحتجوا أيضا بحديث يروى في حكاية عن أبي حنيفة و ابن أبي ليلى وشريك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع و شرط وقد ذكره جماعة من المصنفين في الفقه ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث وقد أنكره أحمد و غيره من العلماء وذكروا أنه لا يعرف و أن الأحاديث الصحيحة تعارضه و أجمع الفقهاء المعروفون من غير خلاف أعلمه عن غيرهم أن اشتراط صفة في المبيع و نحوه كاشتراط كون العبد كاتبا أو صانعا أو اشتراط طول الثوب أو قدر الأرض ونحو ذلك شرط صحيح
القول الثاني أن الأصل في العقود و الشروط الجواز و الصحة ولا يحرم منها و يبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه و إبطاله نصا أو قياسا عند من يقول به و أصول أحمد المنصوص عنه أكثرها يجري على هذا القول و مالك قريب منه لكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه
وعامة ما يصححه أحمد من العقود و الشروط فيها يشتبه بدليل خاص من أثر أو قياس لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعا من الصحة ولا يعارض ذلك بكونه شرطا يخالف مقتضى العقد أولم يرد به نص وكان قد بلغه في العقود و الشروط من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم و الصحابة ما لا تجده عند غيره من الأئمة فقال بذلك وبما في معناه قياسا عليه وما اعتمده غيره في إبطال الشروط من نص فقد يضعفه أو يضعف دلالته و كذلك قد يضعف ما اعتمدوه من قياس وقد يعتمد طائفة من أصحابه عمومات الكتاب و السنة التي سنذكرها في تصحيح الشروط كمسألة الخيار أكثر من ثلاث مطلقا فمالك يجوزه بقدر الحاجة و أحمد في إحدى الروايتين عنه يجوز شرط الخيار في النكاح أيضا و يجوزه ابن حامد و غيره في الضمان و نحوه و يجوز أحمد استثناء بعض منفعة الخارج من ملكه في جميع العقود و اشتراط قدر زائد على مقتضاها عند الإطلاق فإذا كان لها مقتضى عند الإطلاق جوز الزيادة عليه بالشرط و النقص منه بالشرط ما لم يتضمن مخالفة الشرع كما سأذكره إن شاء الله
فيجوز للبائع أن يستثني بعض منفعة المبيع كخدمة العبد و سكنى الدار و نحو ذلك إذا كانت تلك المنفعة مما يجوز استبقاؤها في ملك الغير اتباعا لحديث جابر لما باع النبي صلى الله عليه وسلم جمله و استثنى ظهره إلى المدينة
ويجوز أيضا للمعتق أن يستثني خدمة العبد مدة حياته أو حياة السيد أو غيرهما اتباعا لحديث سفينة لما أعتقته أم مسلمة و اشترطت عليه خدمة النبي صلى الله عليه وسلم ما عاش
ويجوز على عامة أقواله أن يعتق أمته و يجعل عتقها صداقها كما في حديث صفية وكما فعله أنس بن مالك وغيره وإن لم ترض المرأة كأنه أعتقها و استثنى منفعة البضع لكنه استثناها بالنكاح إذ استثناؤها بلا نكاح غير جائز بخلاف منفعة الخدمة
ويجوز أيضا للواقف إذا وقف شيئا أن يستثني منفعته و غلته جميعها لنفسه مدة حياته كما روي عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك و روي فيه حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم وهل يجوز وقف الإنسان على نفسه فيه عنه روايتان
ويجوز أيضا على قياس قوله استثناء بعض المنفعة في العين الموهوبة و الصداق و فدية الخلع و الصلح عن القصاص و نحو ذلك من أنواع إخراج الملك سواء كان بإسقاط كالعتق أو بتمليك بعوض كالبيع أو بغير عوض كالهبة
ويجوز أحمد أيضا في النكاح عامة الشروط التي للمشترط فيها غرض صحيح لما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج ) ومن قال بهذا الحديث قال إنه يقتضي أن الشروط في النكاح أوكد منها في البيع و الإجارة وهذا مخالف لقول من يصحح الشروط في البيع دون النكاح فيجوز أحمد أن تستثني المرأة ما يملكه الزوج بالإطلاق فتشترط أن لا تسافر معه و لا تنتقل من دارها و تزيد على ما يملكه بالإطلاق فتشترط أن تكون مخلية به فلا يتزوج عليها ولا يتسرى
ويجوز على الرواية المنصوصة عنه المصححة عند طائفة من أصحابه أن يشترط كل واحد من الزوجين في الآخر صفة مقصودة كاليسار و الجمال ونحو ذلك و يملك الفسخ بفواته وهو من أشد الناس قولا بفسخ النكاح و انفساخه فيجوز فسخه بالعيب كما لو تزوج عليها وقد شرطت عليه أن لا يتزوج عليها و بالتدليس كما لو ظنها حرة فطهرت أمة و بالخلف بالصفة على الصحيح كما لو شرط الزوج أن له مالا فظهر بخلاف ما ذكر و ينفسخ عنده بالشروط الفاسدة المنافية لمقصوده كالتوقيت و اشتراط الطلاق وهل يبطل بفساد المهر كالخمر و الميتة و نحو ذلك فيه عنه روايتان إحداهما نعم كنكاح الشغار وهو رواية عن مالك و الثانية لا ينفسخ لأنه تابع وهو عقد مفرز كقول أبي حنيفة و الشافعي
وعلى أكثر نصوصه يجوز أن يشترط على المشتري فعلا أو تركا في المبيع مما هو مقصود للبائع أو للمبيع نفسه وإن كان أكثر متأخري أصحابه لا يجوزون من ذلك إلا العتق وقد يروى ذلك عنه لكن الأول أكثر في كلامه ففي جامع الخلال عن أبي طالب سألت أحمد عن رجل اشترى جارية فشرط أن يتسرى بها تكون جارية نفيسه يحب أهلها أن يتسرى بها ولا تكون للخدمة قال لا بأس به و قال مهنا سألت أبا عبد الله عن رجل اشترى من رجل جارية فقال له إذا أردت بيعها فأنا أحق بها بالثمن الذي تأخذها به مني قال لا بأس به ولكن لا يطؤها ولا يقربها وله فيها شرط لأن ابن مسعود قال لرجل لا تقربنها ولأحد فيها شرط وقال حنبل حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبد الله بن عبيد الله بن عتبة أن ابن مسعود اشترى جارية من امرأته و شرط لها إن باعها فهي لها بالثمن الذي اشتراها به فسأل ابن مسعود عن ذلك عمر بن الخطاب فقال لا تنكحها وفيها شرط وقال حنبل قال عمي كل شرط في فرج فهو على هذا و الشرط الواحد في البيع جائز إلا أن عمر كره لابن مسعود أن يطأها لأنه شرط لامرأته الذي شرط فكره عمر أن يطأها وفيها شرط وقال الكرماني سألت أحمد عن رجل اشترى جارية وشرط لأهلها أن لا يبيعها ولا يهبها فكأنه رخص فيه و لكنهم إن اشترطوا له إن باعها فهو أحق بها بالثمن فلا يقربها يذهب إلى حديث عمر بن الخطاب حين قال لعبد الله بن مسعود
فقد نص في غير موضع على أنه إذا أراد البائع بيعها لم يملك إلا ردها إلى البائع بالثمن الأول كالمقابلة وأكثر المتأخرين من أصحابه على القول المبطل لهذا ردها إلى الشرط وربما تأولوا قوله جائز إي العقد جائز و بقية نصوصه تصرح بأن مراده الشرط أيضا و اتبع في ذلك القصة المأثورة عن عمر و ابن مسعود و زينب امرأة عبد الله ثلاثة من الصحابة و كذلك اشتراط المبيع فلا يبيعه ولا يهبه أو يتسراها و نحو ذلك مما فيه تعيين لمصرف واحد كما روى عمر بن شبه في أخبار عثمان أنه اشترى من صهيب دارا و شرط أن يقفها على صهيب و ذريته من بعده
وجماع ذلك أن الملك يستفاد به تصرفات متنوعة فكما جاز بالإجماع استثناء بعض المبيع و جوز أحمد و غيره استثناء بعض منافعه جوز أيضا استثناء بعض التصرفات
وعلى هذا فمن قال هذا الشرط ينافي مقتضى العقد قيل له أينافي مقتضى العقد المطلق أو مقتضى العقد مطلقا فإن أراد الأول فكل شرط كذلك و إن أراد الثاني لم يسلم له و إنما المحذور أن ينافي مقصود العقد كاشتراط الطلاق في النكاح أو اشتراط الفسخ في العقد فأما إذا شرط ما يقصد بالعقد لم ينافي مقصوده هذا القول هو الصحيح بدلالة الكتاب و السنة و الإجماع و الاعتبار مع الاستصحاب و عدم الدليل المنافي
أما الكتاب فقال الله تعالى 5 1 { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } و العقود هي العهود وقال تعالى { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا } و قال تعالى { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا } وقال تعالى { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا } فقد أمر سبحانه بالوفاء بالعقود وهذا عام و كذلك أمر بالوفاء بعهد الله و بالعهد وقد دخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه بدليل قوله { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل } فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه وإن لم يكن الله قد أمر بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد كالنذر و البيع و إنما أمر بالوفاء به و لهذا قرنه بالصدق في قوله { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا } لأن العدل في القول خبر يتعلق بالماضي و الحاضر و الوفاء بالعهد يكون في القول المتعلق بالمستقبل كما قال تعالى { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } وقال سبحانه { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } قال المفسرون كالضحاك وغيره تساءلون به تتعاهدون وتتعاقدون وذلك لأن كل واحد من المتعاقدين يطلب من الآخر ما أوجبه العقد من فعل أو ترك أو مال أو نفع ونحو ذلك وجمع سبحانه في هذه الآية وسائر السورة أحكام الأسباب التي بين بني آدم المخلوقة كالرحم والمكسوبة كالعقود التي يدخل فيها الصهر وولاية مال اليتيم ونحو ذلك وقال سبحانه { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم } والأيمان جمع يمين وكل عقد فإنه يمين قيل سمى بذلك لأنهم كانوا يعقدونه بالمصافحة باليمين يدل على ذلك قوله { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة } والإل هو القرابة والذمة العهد وهما المذكوران في قوله { تساءلون به والأرحام } إلى قوله { لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة } فذمهم الله على قطيعة الرحم ونقض الذمة إلى قوله { وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم } وهذه نزلت في كفار مكة لما صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ثم نقضوا العهد بإعانة بني بكر على خزاعة وأما قوله سبحانه { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } فتلك عهود جائزة لا لازمة فإنها كانت مطلقة وكان مخيرا بين إمضائها ونقضها كالوكالة ونحوها ومن قال من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم إن الهدنة لا تصلح إلا مؤقتة فقوله مع أنه مخالف لأصول أحمد يرده القرآن وترده سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر المعاهدين فإنه لم يوقت معهم وقتا فأما من كان من عهده موقتا فلم يبح له نقضه بدليل قوله { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين } وقال { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين } وقال { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } فإنما أباح النبذ عند ظهور أمارات الخيانة لأن المحذور من جهتهم وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } الآية و جاء أيضا في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري إن في القرآن الذي نسخت تلاوته سورة كانت كبراءة { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة وقال تعالى { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } في سورتي المؤمنون و المعارج وهذا من صفة المستثنين من الهلع المذموم بقوله { إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } هذا يقتضي وجوب ذلك لأنه لم يستثن من المذموم إلا من اتصف بجميع ذلك ولهذا لم يذكر فيها إلا ما هو واجب و كذلك في سورة المؤمنين قال في أولها { أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } فمن لم يتصف بهذه الصفات لم يكن من الوارثين لأن ظاهر الآية الحصر فإن إدخال الفصل بين المبتدأ و الخبر يشعر الحصر و من لم يكن من وارثي الجنة كان معرضا للعقوبة إلا أن يعفو الله عنه و إذا كانت رعاية العهد واجبة فرعايته هي الوفاء به ولما جمع الله بين العهد و الأمانة جعل النبي صلى الله عليه وسلم ضد ذلك صفة المنافق في قوله إذا حدث كذب و إذا وعد أخلف و إذا عاهد غدر و إذا خاصم فجر و عنه كان على خلق من نفاق فطبع المؤمن ليس الخيانة ولا الكذب وما زالوا يوصون بصدق الحديث و أداء الأمانة وهذا عام وقال تعالى { وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } فذمهم على نقض عهد الله و قطع ما أمر الله بصلته لأن الواجب إما بالشرع و إما بالشرط الذي عقده المرء باختياره وقال أيضا { الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا من ما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار } و قال { أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون } و قال { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } وقال تعالى { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين } وقال { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم } وقال تعالى { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون }
والأحاديث في هذا كثيرة مثل ما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أربع من كن فيه كان منافقا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب و إذا وعد أخلف و إذا عاهد غدر و إذا خاصم فجر ) وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة ) وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة وفي رواية وفي رواية ( لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به بقدر غدرته ألا ولا غادر أعظم غدرة من أمير عامة ) وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله و فيمن معه من المسلمين خيرا ثم قال اغزوا باسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا و لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا و لا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم و كف عنهم الحديث فنهاهم عن الغدر كما نهاهم عن الغلول
وفي الصحيحين عن ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب لما سأله هرقل عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم هل يغدر فقال لا يغدر و نحن معه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها قال ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا إلا هذه الكلمة وقال هرقل في جوابه سألتك هل يغدر فذكرت أنه لا يغدر و كذلك الرسل لا تغدر فجعل هذا صفة لازمة للمرسلين
وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج فدل على استحقاق الشروط بالوفاء و أن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر و رجل باع حرا ثم أكل ثمنه و رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه و لم يعطه أجره فذم الغادر و كل من شرط شرطا ثم نقصه فقد غدر
فقد جاء الكتاب و السنة بالأمر بالوفاء بالعهود و الشروط و المواثيق و العقود و بأداء الأمانة و رعاية ذلك و النهي عن الغدر و نقض العهود و الخيانة و التشديد على من يفعل ذلك
ولما كان الأصل فيها الحظر و الفساد إلا ما أباحه الشرع لم يجز أن يؤمر بها مطلقا ويذم من نقضها و غدر مطلقا كما أن قتل النفس لما كان الأصل فيه الحظر إلا ما أباحه الشرع أو أوجبه لم يجز أن يؤمر بقتل النفس و يحمل على القدر المباح بخلاف ما كان جنسه واجبا كالصلاة و الزكاة فإنه يؤمر به مطلقا و إن كان لذلك شروط و موانع فينهى عن الصلاة بغير طهارة وعن الصدقة بما يضر النفس ونحو ذلك و كذلك الصدق في الحديث مأمور به وإن كان قد يحرم الصدق أحيانا لعارض و يحج السكوت أو التعريض
وإذا كان جنس الوفاء و رعاية العهد مأمورا به علم أن الأصل صحة العقود والشروط إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره و حصل به مقصوده و مقصود العقد هو الوفاء به فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهود دل على أن الأصل فيها الصحة و الإباحة
وقد روى أبو داود و الدارقطني من حديث سليمان بن بلال حدثنا كثير ابن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا و المسلمون على شروطهم و كثير بن زيد قال يحيى بن معين في رواية هو ثقة و ضعفه في رواية أخرى
وقد روى الترمذي و البزار من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما ) قال الترمذي حديث حسن صحيح وروى ابن ماجة منه الفصل الأول لكن كثيرا ابن عمرو ضعفه الجماعة و ضرب أحمد على حديثه في المسند فلم يحدث به فلعل تصحيح الترمذي له لروايته من وجوه وقد روي أبو بكر البزار أيضا عن محمد بن عبد الرحمن السلماني عن أبيه عن أبن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على شروطهم ما وافق الحق وهذه الأسانيد وإن كان الواحد منها ضعيفا فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضا
وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب و السنة وهو حقيقة المذهب فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله ولا يحرم ما أباحه الله فإن شرطه حينئذ يكون مبطلا لحكم الله و كذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله و إنما المشترط له أن يكون يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه فمقصود الشروط وجوب مالم يكن واجبا ولا حراما وعدم الإيجاب ليس نفيا للإيجاب حتى يكون المشترط مناقضا للشرع وكل شرط صحيح فلا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبا فإن المتبايعين يجب لكل منهما على الآخر من الإقباض ما لم يكن واجبا و يباح أيضل لكل منهما ما لم يكن مباحا ويحرم على كل منهما ما لم يكن حراما وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع أو رهنا أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها فإنه يجب ويحرم ويباح بهذا الشرط ما لم يكن كذلك
وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصل فساد الشروط قال لأنها إما تبيح حراما أو تحرم حلالا أو توجب ساقطا أو تسقط واجبا وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع وأوردت شبهة عند بعض الناس حتى توهم أن هذا الحديث متناقض وليس كذلك بل كل ما كان حراما بدون الشرط فالشرط لا يبيحه كالربا وكالوطء في ملك الغير وكثبوت الولاء لغير المعتق فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح أو ملك يمين فلو أراد رجل أن يعير أمته لآخر للوطء لم يجز له ذلك بخلاف إعارتها للخدمة فإنه جائز وكذلك الولاء فقد نهى النبي صلى لله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته وجعل الله الولاء كالنسب يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد وقال صلى الله عليه وسلم ( من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ) وأبطل الله ما كانوا عليه في الجاهلية من تبنى الرجل ابن غيره وانتساب المعتق إلى غير مولاه فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط فلا يبيح الشرط منه ما كان حراما وأما ما كان مباحا بدون اشرط فالشرط يوجبه كالزيادة في المهر والثمن والرهن وتأخير الاستيفاء فإن الرجل له أن يعطي المرأة وله أن يتبرع بالرهن وبالإنظار ونحو ذلك فإذا شرطه صار واجبا وإذا وجب فقد حرمت المطالبة التي كانت حلالا بدونه لأن المطالبة لم تكن حلالا مع عدم الشرط فإن الشارع لم يبح مطالبة المدين مطلقا فما كان حلالا وحراما مطلقا فالشرط لا يغيره
وأما ما أباحه الله في حال مخصوصة ولم يبحه مطلقا فإذا حوله الشرط عن تلك الحال لم يكن الشرط قد حرم ما أحله الله وكذلك ما حرمه الله في حال مخصوصة ولم يحرمه مطلقا لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله وإن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة والتحريم لكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحريم بالخطاب وبين ثبوته بمجرد الاستصحاب
فالعقد والشرط يرفع موجب الاستصحاب لكن لا يرفع ما أوجبه كلام الشارع وآثار الصحابة توافق ذلك كما قال عمر رضى الله عنه مقطع الحقوق عند الشروط
وأما الاعتبار فمن وجوه أحدها أن العقود والشروط من باب الأفعال العادية والأصل فيها عدم التحريم فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل ذلك على التحريم كما أن الأعيان الأصل فيها عدم التحريم وقوله { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } عام في الأعيان والأفعال وإذا لم يكن حراما لم تكن فاسدة وكانت صحيحة
● [ يتم متابعة القاعدة الثالثة في العقود ] ●
القواعد النورانية الفقهية
تأليف: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس
منتدى ميراث الرسول - البوابة