بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم مكتبة الفقه الإسلامي القواعد النورانية الفقهية لأحمد بن تيمية ● [ فصل القدر المشروع للإمام ] ●
وأما القدر المشروع للإمام فهي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري عن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث أنه قال إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم و ليؤمكم أكبركم ثم صلوا كما رأيتموني أصلي و أما القيام ففي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بق و القرآن المجيد و نحوها و كانت صلاته بعد إلى تخفيف أي يجعل صلاته بعد الفجر خفيفة كما في صحيح مسلم أيضا عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى وفي العصر نحو ذلك و في الصبح أطول من ذلك وفي الصحيحين عن أبي برزة الأسلمي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الهجير التي تدعونها الأولى لحين تدحض الشمس و يصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة و الشمس حية قال الراوي و نسيت ما قال في المغرب و كان يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة و كان يكره النوم قبلها و الحديث بعدها و كان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه وكان يقرأ فيها بالستين إلى المئة وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال حزرنا قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر و العصر فحزرنا قيامه في الركعتين الأولتين من الظهر قدر ثلاثين أية قدر آلم السجدة و حزرنا قيامه في الأولتين من العصر على قدر الآخرتين من الظهر و حزرنا قيامه في الآخرتين من العصر على النصف من ذلك رواه مسلم و أبو داود و النسائي و في الصحيحين و غيرهما عن جابر بن سمرة قال قال عمر لسعد بن أبي وقاص لقد شكاك الناس في كل شيء حتى في الصلاة قال أما أنا فأمد في الأوليين و أحذف الأخريين و لا آلو ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذاك الظن بك يا أبا إسحاق وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي سعيد رضي الله عنه قال لقد كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يتوضأ ثم يأتي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطيلها وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي وائل قال خطبنا عمار بن ياسر يوما فأوجز و أبلغ فقلنا يا أبا اليقظان لقد أبلغت و أوجزت فلو كنت تنفست فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن طول صلاة الرجل و قصر خطبته مئنة في فقهه فأطيلوا الصلاة و أقصروا الخطبة إن من البيان لسحرا وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات فكانت صلاته قصدا أي وسطا و فعله الذي سنه لأمته هو من التخفيف الذي أمر به الأئمة إذ التخفيف من الأمور الإضافية فالمرجع في مقداره إلى السنة و ذلك كما خرجاه في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع فيؤمنا وقال مرة ثم يرجع فيصلي بقومه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال مرة العشاء فصلى معاذ مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء يؤم قومه فقرأ البقرة فاعتزل رجل من القوم فصلى فقيل نافقت فقال ما نافقت فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن معاذا يصلي معك ثم يرجع فيؤمنا يا رسول الله إنما نحن أصحاب نواضح و نعمل بأيدينا و إنه جاء يؤمنا فقرأ سورة البقرة فقال أفتان أنت يا معاذ اقرأ بكذا اقرأ بكذا قال أبو الزبير { سبح اسم ربك الأعلى } { والليل إذا يغشى } وفي رواية للبخاري عن جابر رضي الله عنه قال أقبل رجل بناضحين و قد جنح الليل فوافق معاذا يصلي و ذكره نحوه فقال في آخره فلولا صليت بسبح باسم ربك الأعلى و الشمس و ضحاها و الليل إذا يغشى فإنه يصلي وراءك الضعيف و الكبير و ذو الحاجة وفي الصحيحين عن أبي مسعود رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا فما رأيت رسول الله غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ قال أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليوجز فإن وراءه الكبير و الضعيف و ذا الحاجة وفي رواية فإن فيهم الضعيف و الكبير وفي رواية فليخفف فإن فيهم المريض و الضعيف و ذا الحاجة وفي صحيح البخاري من حديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إني لأقوم إلى الصلاة و أنا أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز كراهية أن أشق على أمه و أما مقدار بقية الأركان مع القيام فقد أخرجا في الصحيحين عن شريك ابن عبد الله بن أبي نمر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة و لا أتم صلاة من النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية عن شريك عنه وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتتن أمه و أخرجا فيهما من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يوجز الصلاة و يكملها وفي لفظ يوجز الصلاة و يتم و أخرجا أيضا عن أبي قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إني لأدخل في الصلاة و أنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز من صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه رواه مسلم من حديث ثابت عن أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة فيقرأ بالسورة الخفيفة أو بالسورة القصيرة وروى مسلم أيضا عن أنس رضي الله عنه قال ما صليت خلف أحد أوجز صلاة ولا أتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم و كانت صلاته متقاربة و صلاة أبي بكر متقاربة فلما كان عمر رضي الله عنه مد في صلاة الصبح و عن قتادة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أخف الناس صلاة في تمام فقول أنس رضي الله عنه ما صليت وراء إمام قط أخف ولا أتم صلاة من رسول الله يريد أنه صلى الله عليه وسلم كان أخف الأئمة صلاة و أتم الأئمة صلاة و هذا لاعتدال صلاته و تناسبها كما في اللفظ الآخر و كانت صلاته معتدلة و في اللفظ الآخر كانت صلاته متقاربة لتخفيف قيامها و قعودها و تكون أتم صلاة لإطالة ركوعها و سجودها و لو أراد أن يكون نفس الفعل الواحد كالقيام هو أخف وهو أتم لناقض ذلك و لهذا بين التخفيف الذي كان يفعله إذا بكى الصبي وهو قراءة سورة قصيرة و بين أن عمر بن الخطاب مد في صلاة الصبح و إنما مد في القراءة فإن عمر رضي الله عنه كان يقرأ في الفجر بسورة يونس و سورة هود و سورة يوسف و الذي يبين ذلك ما رواه أبو داود في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ما صليت خلف رجل أوجز صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمام و كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال سمع الله لمن حمد قام حتى نقول قد أوهم ثم يكبر و يسجد و كان يقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم كما أخرجا في الصحيحين عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا قال ثابت فكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل قد نسي و للبخاري من حديث شعبة عن ثابت قال قال أنس رضي الله عنه ينعت لنا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم و كان يصلي فإذا رفع رأسه من الركوع حتى يقول القائل قد نسي فهذه أحاديث أنس الصحيحة تصرح أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يوجزها و يكملها و التي كانت أخف الصلاة و أتمها أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم فيها من الركوع حتى يقول القائل إنه قد نسي و يقعد بين السجدتين حتى يقول القائل قد نسي و إذا كان في هذا يفعل ذلك فمن المعلوم اتفاق المسلمين و السنة المتواترة أن الركوع و السجود لا ينقصان عن هذين الاعتدالين بل كثير من العلماء يقول لا يشرع و لا يجوز أن يجعل هذين الاعتدالين بقدر الركوع و السجود بل ينقصان عن الركوع و السجود وفي الصحيحين من حديث شعبة عن الحكم قال غلب على الكوفة رجل قد سماه زمن ابن الأشعث و سماه غندر في رواية مطر بن ناجية فأمر أبا عبيدة بن عبد الله أن يصلي بالناس فكان يصلي فإذا رفع رأسه من الركوع قام و قدر ما أقول اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات و ملء الأرض و ملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء و المجد لا مانع لما أعطيت و لا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد قال الحكم فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن أبي ليلى قال سمعت البراء بن عازب يقول كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامه و ركوعه و إذا رفع رأسه من الركوع و سجوده و ما بين السجدتين قريبا من السواء قال شعبة فذكرته لعمرو بن مرة فقال قد رأيت عبد الرحمن ابن أبي ليلى فلم تكن صلاته هكذا و لفظ مطر عن شعبة كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم و سجوده و بين السجدتين و إذا رفع رأسه من الركوع ما خلا القيام و القعود قريبا من السواء وهو في الصحيح و السنن من حديث هلال بن أبي حميد عن ابن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت قيامه فركوعه فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فسجدته ما بين التسليم و الانصراف قريبا من السواء و يشهد لهذا ما رواه مسلم و أبو داود و النسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول حين يرفع رأسه من الركوع سمع الله لمن حمد اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات و ملء الأرض و ملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء و المجد أحق ما قال العبد و كلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت و لا معطي لما منعت و لا ينفع ذا الجد منك الجد و قوله أحق ما قال العبد هكذا هو في الحديث وهو خبر مبتدأ محذوف و أما ما ذكره بعض المصنفين من الفقهاء و الصوفية من قوله حق ما قال العبد فهو تحريف بلا نزاع بين أهل العلم بالحديث و السنة ليس له أصل في الأثر و معناه أيضا فاسد فإن العبد يقول الحق و الباطل و أما الرب سبحانه و تعالى فهو يقول الحق و يهدي السبيل كما قال تعالى { فالحق والحق أقول } و أيضا فليست الصلاة مبنية إلا على الثناء على الله عز وجل و روى مسلم و غيره عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات و ملء الأرض و ملء ما بينهما و ملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء و المجد أحق ما قال العبد و كلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت و لا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد وروى مسلم و غيره عن عبد الله بن أبي أوفى قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع يقول سمع الله لمن حمد اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات و ملء الأرض و ملء ما شئت من شيء بعد وفي رواية أخرى لمسلم زاد بعد هذا أنه كان يقول اللهم طهرني من الذنوب و الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس فإن قيل فإذا كانت هذه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي اتفق الصحابة رضي الله عنهم على نقلها عنه و قد نقلها أهل الصحاح و السنن و المسانيد من هذه الوجوه وغيرها و الصلاة عمود الدين فكيف خفي ذلك على طائفة من فقهاء العراق وغيره حتى لم يجعلوا الاعتدال من الركوع والقعود بين السجدتين من الأفعال المقارنة للركوع والسجود ولا استحبوا في ذلك ذكرا أكثر من التحميد يقول ربنا لك الحمد حتى إن بعض المتفقهة قال إذا طال ذلك طولا كثيرا بطلت صلاته قيل سبب ذلك وغيره أن الذي مضت به السنة أن الصلاة يصليها المسلمين الأمراء وولاة الحرب فوالى الجهاد هو كان أمير الصلاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وما بعد ذلك إلى أثناء دولة بني العباس والخليفة هو الذي يصلى بالناس الصلوات الخمس والجمعة لا يعرف المسلمون غير ذلك وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما سيكون بعده من تغير الأمراء حتى قال سيكون من بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة فكان من هؤلاء من يؤخرها عن وقتها حتى يضيع الوقت المشروع فيها أن بعضهم كان لا يتم التكبير أى لا يجهر بالتكبير في انتقالات الركوع وغيره ومنهم من لا يتم الاعتدالين وكان هذا يشيع في الناس فيربو في ذلك الصغير ويهرم فيه الكبير حتى إن كثيرا من خاصة الناس لا يظن السنة إلا ذلك فإذا جاء أمراء أحيوا السنة عرف ذلك كما رواه البخاري في صحيحه عن قتادة عن عكرمة قال صليت خلف شيخ بمكة فكبر اثنين وعشرين تكبيرة فقلت لابن عباس إنه لأحمق فقال ثكلتك أمك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم وفي رواية أبي بشر عن عكرمة قال رأيت رجلا عند المقام يكبر في كل خفض و رفع و إذا قام و إذا وضع فأخبرت ابن عباس فقال أو ليس تلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أم لك وهذا يعني به أن ذلك الإمام كان يجهر بالتكبير فكان الأئمة الذين يصلي خلفهم عكرمة لا يفعلون ذلك و ابن عباس لم يكن إماما حتى يعرف ذلك منه فأنكر ذلك عكرمة حتى أخبره ابن عباس و أما نفس التكبير فلم يكن يشتبه أمره على أحد و هذا كما أن عامة الأئمة المتأخرين لا يجهرون بالتكبير بل يفعل ذلك المؤذن و نحوه فيظن أكثر الناس أن هذه هي السنة ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه ليست هي السنة بل هم متفقون على ما ثبت عندهم بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤذن و غيره من المأمومين لا يجهرون بالتكبير دائما كما أن بلالا لم يكن يجهر بذلك خلف النبي صلى الله عليه وسلم لكن إذا احتيج إلى ذلك لضعف صوت الإمام أو بعد المكان فهذا قد احتجوا لجوازه بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يسمع الناس التكبير خلف النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه حتى تنازع الفقهاء في جهر المأموم لغير حاجة هل يبطل صلاته أم لا ومثل ذلك ما أخرجاه في الصحيحين و السنن عن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال صليت خلف علي بن أبي طالب أنا و عمران بن حصين فكان إذا سجد كبر و إذا رفع رأسه كبر و إذا نهض من الركعتين كبر فلما قضي الصلاة أخذ عمران بن حصين بيدي فقال قد ذكرني هذا بصلاة محمد صلى الله عليه وسلم أو قال لقد صلى بنا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم و لهذا لما جهر بالتكبير سمعه عمران و مطرف كما سمعه غيرهما و مثل هذا ما في الصحيحين و السنن أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة و غيرها يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يقوم من الجلوس من الثنتين يفعل ذلك في كل ركعة حتى يفرغ من الصلاة ثم يقول حين ينصرف و الذي نفسي بيده إني لأقربكم شبها بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا وهذا كان يفعله أبو هريرة رضي الله عنه لما كان أميرا على المدينة فإن معاوية كان يعاقب بينه و بين مروان بن الحكم في إمارة المدينة فيولي هذا تارة و يولي هذا تارة و كان مروان يستخلف و كان أبو هريرة يصلي بهم بما هو أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة مروان و غيره من أمراء المدينة و قوله في المكتوبة و غيرها يعني ما كان من النوافل مثل قيام رمضان كما أخرجه البخاري من حديث الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث و أبي سلمة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة و غيرها في رمضان و غيره فيكبر حين يقوم و يكبر حين يركع ثم يقول سمع الله لمن حمده ثم يقول ربنا لك الحمد و ذكر نحوه و كان الناس قد اعتادوا ما يفعله غيره فلم يعرفوا ذلك حتى سألوه كما رواه مسلم من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يكبر في الصلاة كلما رفع ووضع فقلت يا أبا هريرة ما هذا التكبير قال إنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم و هذا كله معناه جهر الإمام بالتكبير و لهذا كانوا يسمونه إتمام التكبير لما فيه من إتمامه برفع الصوت و فعله في كل خفض و رفع يبين ذلك أن البخاري ذكر في باب التكبير عند النهوض من الركعتين قال وكان ابن الزبير يكبر في نهضته ثم روى البخاري من حديث فليح ابن سليمان عن سعيد بن الحارث قال صلى لنا أبو سعيد فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود و حين سجد و حين رفع و حين قام من الركعتين و قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أردفه البخاري بحديث مطرف قال صليت أنا و عمران بن حصين خلف على بن أبي طالب رضي الله عنه فكان إذا سجد كبر و إذا رفع كبر و إذا نهض من الركعتين كبر فلما سلم أخذ عمران بن حصين بيدي فقال لقد صلى بنا هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم أو قال لقد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم فهذا يبين أن الكلام إنما هو في الجهر بالتكبير و أما أصل التكبير فلم يكن مما يخفى على أحد و ليس هذا أيضا مما يجهل هل يفعله الإمام أم لا يفعله فلا يصح لهم نفيه عن الأئمة كما لا يصح نفي القراءة في صلاة المخافتة و نفي التسبيح في الركوع و السجود و نفي القراءة في الركعتين الآخرتين و نحو ذلك و لهذا استدل بعض من كان لا يتم بالتكبير و لا يجهر به بما روي عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم و كان لا يتم التكبير رواه أبو داود و البخاري في التاريخ الكبير و قد حكى أبو داود الطيالسي أنه قال هذا عندنا باطل و هذا إن كان محفوظا فلعل ابن أبزي صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم في مؤخر المسجد و كان النبي صلى الله عليه وسلم صوته ضعيفا فلم يسمع تكبيره فاعتقد أنه لم يتم التكبير و إلا فالأحاديث المتواترة عنه بخلاف ذلك فلو خالفها كان شاذا لا يلتفت إليه ومع هذا فإن كثيرا من الفقهاء المتأخرين يعتقدون أن إتمام التكبير هو نفس فعله ولو سرا و أن علي بن أبي طالب و أبا هريرة و غيرهما من الأئمة إنما أفادوا الناس نفس فعل التكبير في الانتقالات و لازم هذا أن عامة المسلمين ما كانوا يعرفون أن الصلاة لا يكبر في خفضها و لا رفعها و هذا غلط بلا ريب ولا نزاع بين من يعرف كيف كانت الأحوال ولو كان المراد التكبير سرا لم يصح نفي ذلك ولا إثباته فإن المأموم لا يعرف ذلك من إمامه ولا يسمي ترك التكبير بالكلية تركا لأن الأئمة كانوا يكبرون عند الافتتاح دون الانتقالات و ليس كذلك السنة بل الأحاديث المروية تبين أن رفع الإمام و خفضه كان في جميعها التكبير وقد قال إسحاق بن منصور قلت لأحمد بن حنبل ما الذي نقصوا من التكبير قال إذا انحط إلى السجود من الركوع و إذا أراد أن يسجد السجدة الثانية من كل ركعة فقد بين الإمام أحمد أن الأئمة لم يكونوا يتمون التكبير بل نقصوا التكبير في الخفض من القيام ومن القعود وهو كذلك والله أعلم لأن الخفض يشاهد بالأبصار فظنوا لذلك أن المأموم لا يحتاج إلى أن يسمع تكبيرة الإمام لأنه يرى ركوعه و يرى سجوده بخلاف الرفع من الركوع و السجود فإن المأموم لا يرى الإمام فيحتاج أن يعلم رفعه بتكبيره و يدل على صحة ما قاله أحمد من حديث ابن أبزي أنه صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتم التكبير و كان لا يكبر إذا خفض هكذا رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن الحسن بن عمران عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه و قد ظن أبو عمر بن عبد البر كما ظن غيره أن هؤلاء السلف ما كانوا يكبرون في الخفض و الرفع و جعل ذلك حجة على أنه ليس بواجب لأنهم لا يقرون الأمة على ترك واجب حتى إنه قد روي عن ابن عمر أنه كان يكبر إذا صلى وحده في الفرض و أما التطوع فلا قال أبو عمر لا يحكي أحمد عن ابن عمر إلا ما صح عنده إن شاء الله قال و أما رواية مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكبر في الصلاة كلما خفض و رفع فيدل ظاهرها على أنه كذلك كان يفعل إماما و غير إمام قلت ما روى مالك لا ريب فيه و الذي ذكره أحمد لا يخالف ذلك و لكن غلط ابن عبد البر فيما فهم من كلام أحمد فإن كلامه إنما كان في التكبير دبر الصلاة أيام العيد الأكبر لم يكن التكبير في الصلاة و لهذا فرق أحمد بين الفرض و النفل فقال أحب إلي أن يكبر في الفرض دون النفل ولم يكن أحمد ولا غيره يفرقون في تكبير الصلاة بين الفرض و النفل بل ظاهر مذهبه أن تكبير الصلاة واجب في النفل كما أنه واجب في الفرض و إن قيل هو سنة في الفرض قيل هو سنة في النفل فأما التفريق بينهما فليس قولا له ولا لغيره وأما الذي ذكره عن ابن عمر في تكبيره دبر الصلاة إذا كان منفردا فهو مشهور عنه وهي مسألة نزاع بين العلماء مشهورة وقد قال ابن عبد البر لما ذكر حديث أبي سلمة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يصلي لهم فيكبر كلما خفض و رفع فلما انصرف قال و الله إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن عبد البر إن الناس لم يكونوا كلهم يفعلون ذلك و يدل عيه مارواه ابن أبي ذئب في موطئه عن سعيد بن سمعان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال ثلاث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلهن و تركهن الناس كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدا و كان يقف قبل القراءة هنيهة يسأل الله من فضله و كان يكبر كلما رفع و خفض قلت هذه الثلاثة تركها طائفة من الأئمة و الفقهاء ممن لا يرفع اليدين ولا يوجب التكبير ومن لا يستحب الاستفتاح و الاستعاذة ومن لا يجهر من الأئمة بتكبير الانتقال قال و قد قال قوم من أهل العلم إن التكبير إنما هو إيذان بحركات الإمام و شعار للصلاة و ليس بسنة إلا في الجماعة أما من صلى وحده فلا بأس عليه أن لا يكبر و لهذا ذكر مالك هذا الحديث و حديث ابن شهاب عن علي بن حسين قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الصلاة كلما خفض و رفع فلم تزل تلك صلاته حتى لقي الله عز وجل و حديث ابن عمر و جابر رضي الله عنهم أنهما كانا يكبران كلما خفضا و رفعا في الصلاة فكان جابر يعلمهم ذلك قال فذكر مالك هذه الأحاديث كلها ليبين لك أن التكبير من سنن الصلاة قلت ما ذكره مالك فكما ذكره و أما ما ذكره ابن عبد البر من الخلاف فلم أجده ذكر لذلك أصلا إلا ما ذكره أحمد عن علماء المسلمين أن التكبير مشروع في الصلوات و إنما ذكر ذلك مالك و غيره و الله أعلم لأجل ما كره من فعل الأئمة الذين كانوا لا يتمون التكبير و قد قال ابن عبد البر روى ابن وهب أخبرني عياض بن عبد الله الفهري أن عبد الله بن عمر كان يقول لكل شيء زينة و زينة الصلاة التكبير و رفع الأيدي فيها وإذا كان ابن عمر يقول ذلك فكيف يظن به أنه لا يكبر إذا صلى وحده هذا لا يظنه عاقل بابن عمر قال ابن عبد البر وقد روى عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وقتادة وغيرهم انهم كانوا لا يتمون التكبير وذكر ذلك أيضا عن القاسم وسعيد بن جبير وروى عن أبي سلمة عن أبي هريرة انه كان يكبر هذا التكبير ويقول إنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهذا يدل على أن التكبير في كل خفض ورفع كان الناس قد تركوه وفي ترك الناس له من غير نكير من واحد منهم ما يدل على أن الأمر محمول عندهم على الإباحة قلت لايمكن أن يعلم إلا ترك الجهر به فأما ترك الإمام التكبير سرا فلا يجوز أن يدعى تركه إن لم يصل الإمام إلى فعله فهذا لم يقله أحد من الأئمة ولم يقل أحد إنهم كانوا يتركون في كل خفض ورفع بل قالوا كانوا لا يتمونه ومعنى لا يتمونه لا ينقصونه ونقصه عدم فعله في حال الخفض كما تقدم من كلامه وهو نقص بترك رفع الصوت به أو نقص له بترك ذلك في بعض المواضع وقد روى ابن عبد البر عن أنس بن مالك رضى الله عنة قال صليت خلف رسول الله صلى عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم فكلهم كان يكبر إذا رفع رأسه وإذا خفض قال وهذا معارض لما روى عن عمر انه كان لا يتم التكبير وروى عن سعيد بن عبد العزيز عن الزهرى قال قلت لعمر بن عبد العزيز ما منعك أن تتم التكبير و هذا عاملك عبد العزيز يتمه فقال تلك صلاة الأول و أبى أن يقبل مني قلت و إنما خفي على عمر بن عبد العزيز و على هؤلاء الجهر بالتكبير كما خفي ذلك على طوائف من أهل زماننا و قبله ما ذكره أبي شيبة أخبرنا جرير عن منصور عن إبراهيم قال أول من نقص التكبير زياد قلت زياد كان أميرا في زمن عمر فيمكن أن يكون ذلك صحيحا و يكون زياد قد سن ذلك حين تركه غيره و روى عن الأسود بن يزيد عن أبي موسى الأشعري قال لقد ذكرنا علي صلاة كنا نصليها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إما نسيناها و إما تركناها عمدا و كان يكبر كلما رفع و كلما وضع و كلما سجد و معلوم أن الأمراء بالعراق الذين شاهدوا ما عليه أمراء البلد وهم أئمة ولم يبلغهم خلاف ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا من شاهدوهم من أهل العلم و الدين لا يعرفون غير ذلك فظنوا أن ذلك هو من أصل السنة و حصل بذلك نقصان في وقت الصلاة و فعلها فاعتقدوا أن تأخير الصلاة أفضل من تقديمها كما كان الأئمة يفعلون ذلك و كذلك عدم إتمام التكبير وغير ذلك من الأمور الناقصة عما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان ابن مسعود يتأول في بعض الأمراء الذين كانوا على عهده أنهم من الخلف الذين قال الله تعالى فيهم { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } فكان يقول كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير و يهرم فيها الكبير إذا ترك فيها شيء قيل تركت السنة فقيل متى ذلك يا أبا عبد الرحمن فقال ذلك إذا ذهب علماؤكم و قلت فقهاؤكم و التمست الدنيا بعمل الآخرة و تفقه لغير الدين و كان عبد الله بن مسعود يقول أيضا أنا من غير الدجال أخوف عليكم من الدجال أمور تكون من كبرائكم فأيما رجل أو امرأة أدرك ذلك الزمان فالسمت الأول فالسمت الأول ومن هذا الباب أن عمر بن عبد العزيز لما تولى إمارة المدينة في خلافة الوليد بن عمه و عمر هذا هو الذي بنى الحجرة النبوية إذ ذاك صلى خلفه أنس بن مالك رضي الله عنه فقال ما رواه أبو داود و النسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه ما صليت وراء أحد بعد رسول برسول الله صلى الله ع عليه وسلم من هذا الفتى يعني عمر بن عبد العزيز قال فخررنا في ركوعه عشر تسبيحات وفي سجوده عشر تسبيحات وهذا كان في المدينة مع أن أمراءها كانوا أكثر محافظة على السنة من أمراء بقية الأمصار فإن الأمصار كانت تساس برأي الملوك و المدينة إنما كانت تساس بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نحو هذا و لكن كانوا قد غيروا أيضا ببعض السنة و من اعتقد أن هذا كان في خلافة عمر بن عبد العزيز فقد غلط فإن أنس بن مالك رضي الله عنه لم يدرك خلافة عمر بن عبد العزيز بل مات قبل ذلك بسنتين وهذا يوافق الحديث المشهور الذي في سنن أبي داود و الترمذي و ابن ماجة عن عون بن عبد الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات سبحان ربي العظيم وذلك أدناه ) و إذا سجد فليقل سبحان ربي الأعلى ثلاثا و ذلك أدناه قال أبو داود هذا مرسل عون لم يدرك عبد الله بن مسعود و كذلك قال البخاري في تاريخه وقال الترمذي ليس إسناده بمتصل عون ابن عبد الله لم يدرك ابن مسعود عون هو من علماء الكوفة المشهورين وهو من أهل بيت عبد الله وقيل إنما تلقاه من علماء أهل بيته فلهذا تمسك الفقهاء بهذا الحديث في التسبيحات لما له من الشواهد حتى صاروا يقولون في الثلاث إنها أدنى الكمال أو أدنى الركوع و ذلك يدل على أن أعلاه أكثر من هذا فقول من يقول من الفقهاء إن السنة للإمام أن يقتصر على ثلاث تسبيحات من أصل الشافعي و أحمد رضي الله عنهما و غيرهم هو من جنس قول من يقول من السنة أن لا يطيل الاعتدال بعد الركوع أو أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت أو نحو ذلك فإن الذين قالوا هذا ليس معهم أصل يرجعون إليه من السنة أصلا بل الأحاديث المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة في الصحاح و السنن و المسانيد وغيرها تبين أنه صلى الله عليه وسلم كان يسبح في أغلب صلاته أكثر من ذلك كما تقدم دلالة الأحاديث عليه و لكن هذا قالوه لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أم أحدكم الناس فليخفف و إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء ولم يعرفوا مقدار التطويل ولا علموا التطويل الذي نهى عنه لما قال لمعاذ أفتان أنت يا معاذ فجعلوا هذا برأيهم قدرا للمستحب ومن المعلوم أن مقدار الصلاة واجبها ومستحبها لا يرجع فيه إلى غير السنة فإن هذا من العلم الذي لم يكله الله و رسوله إلى آراء العباد إذ النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالمسلمين في كل يوم خمس صلوات و كذلك خلفاؤه الراشدون الذين أمرنا بالاقتداء بهم فيجب البحث عما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينبغي أن يوضع فيه حكم بالرأي و إنما يكون اجتهاد الرأي فيما لم تمض به سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يعمد إلى شيء مضت به سنة فيرد بالرأي و القياس ومما يبين هذا أن التخفيف أمر نسبي إضافي ليس له حد في اللغة ولا في العرف إذ قد يستطيل هؤلاء ما يستخفه هؤلاء و يستخف هؤلاء ما يستطيله هؤلاء فهو أمر يختلف باختلاف عادات الناس و مقادير العبادات ولا في كل من العبادات التي ليست شرعية فعلم أن الواجب على المسلم أن يرجع في مقدار التخفيف و التطويل إلى السنة و بهذا يتبين أن أمره صلى الله عليه وسلم بالتخفيف لا ينافي أمره بالتطويل أيضا في حديث عمار الذي في الصحيح لما قال إن طول صلاة الرجل و قصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة و أقصروا الخطبة و هناك أمرهم بالتخفيف ولا منافاة بينهما فإن الإطالة هنا بالنسبة إلى الخطبة و التخفيف هناك بالنسبة إلى ما فعل بعض الأئمة في زمانه من قراءة البقرة في العشاء الآخرة ولهذا قال فإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء فبين أن المنفرد ليس لطول صلاته حد تكون به الصلاة خفيفة بخلاف الإمام لأجل مراعاة المأمومين فإن خلفه السقيم و الكبير و ذو الحاجة و لهذا مضت السنة بتخفيفها عن الإطالة إذا عرض للمأمومين أو بعضهم عارض كما قال صلى الله عليه وسلم إني لأدخل الصلاة و أنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأخفف لما أعلم من وجد أمه و بذلك علل النبي صلى الله عليه وسلم فيما تقدم من حديث ابن مسعود وكذلك في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف و الكبير و ذا الحاجة و إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء وفي رواية فإن فيهم السقيم و الشيخ الكبير و ذا الحاجة و لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصرها أحيانا عما كان يفعل غالبا كما روى مسلم في صحيحه عن عمرو بن حريث رضي الله عنه قال كأني أسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الغداة { فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس } وروى أنه قرأ في صلاة الفجر في بعض أسفاره بسورة الزلزلة و كان يطولها أحيانا حتى ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو يقرأ { والمرسلات عرفا } فقالت يا بنى لقد أذكرتنى بقراءتك هذه السورة أنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب وفي الصحيحين عن محمد ابن جبير بن مطعم عن أبيه أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور في المغرب وفي البخاري والسنن عن مروان بن الحكم قال قال لى زيد بن ثابت مالك تقرأ في المغرب بقصار المفصل وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرا في المغرب بطولي الطوليين قال قلت ما طولى الطوليين قال الأعراف فهذه الأحاديث من أصح الأحاديث وقد ثبت فيها أنه كان يقرأ في المغرب تارة بالأعراف وتارة بالطور وتارة بالمرسلات مع اتفاق الفقهاء على أن القراءة في المغرب سنتها أن تكون أقصر نم القراءة في الفجر فكيف تكون القراءة في الفجر وغيرها ومن هذا الباب ما روى وكيع عن منصور عن ابراهيم النخعي قال كان أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود يطيل القيام بقدر الركوع فكانوا يعيبون ذلك عليه قال أبو محمد بن حزم العيب على من عاب عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعول على من لا حجة فيه قلت قد تقدم فعل أبي عبيدة الذي في الصحيح وموافقته لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء الذين عابوا عليه كانوا من أهل الكوفة الذين في زمن الحجاج وفتنة ابن الأشعث لم يكونوا من الصحابة ولا عرف أنهم من أعيان التابعين وإن كان قد يكون فيهم من أدرك ابن مسعود فابن بن مسعود لم يكن هو الإمام الراتب في زمنه بل الإمام الراتب كان غيره وابن بن مسعود أقرب إلى متابعة أبيه من هؤلاء المجهولين فهؤلاء الذين أنكروا على أبي عبيدة إنما أنكروا عليه لمخالفته العادة التي اعتادوها وإن خالفت السنة النبوية ولكن ليس هذا الإنكار من الفقهاء يبين ذلك أن أجل فقيه أخذ عنه إبراهيم النخعي هو علقمة وتوفى قبل فتنة ابن الأشعث التي صلى فيها أبو عبيدة بن عبد الله فإن علقمة توفى سنة إحدى أو اثنتين وستين في أوائل إمارة يزيد وفتنة ابن الأشعث كانت في إمارة عبد الملك وكذلك مسروق قيل إنه توفى قبل السبعين أيضا وقيل فيهما كما قيل في مسروق ونحوه فتبين أن أكابر الفقهاء من أصحاب عبد الله بن مسعود لم يكونوا هم الذين أنكروا ذلك مع أن من الناس إذا سمع هذا الإطلاق صرفه إلى إبراهيم النخعي وقد عرفت أن المشهور أن علقمة يظن أن إبراهيم وأمثاله أنكروا ذلك وهم رأوا ذلك وهم أخذوا العلم عن عبد الله ونحوه فقد تبين أن الأمر ليس كذلك آخر ما وجد في الأصل والحمد لله رب العالمين
القواعد النورانية الفقهية تأليف: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس منتدى ميراث الرسول - البوابة