من طرف همسات الجمعة يناير 11, 2019 4:32 pm
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
رحلة إبن بطوطة
الجزء الثانى
من أرباب الخطط الى سلطان بلاد المعبر
● [ ذكر أرباب الخطط وسيرهم ] ●
وهم يسمون الوزير الأكبر النائب عن السلطانة كلكي " بفتح الكاف الأولى واللام "، ويسمون القاضي فندريارقالوا " وضبط ذلك بفاء مفتوح ونون مسكن ودال مهمل مفتوح وياء آخر الحروف والف وراء وقاف والف ولام مضموم "، وأحكامهم كلها راجعة إلى القاضي، وهو أعظم عندهم من الناس أجمعين، وأمره كأمر السلطان وأشد، ويجلس على بساط في الدار. وله ثلاث جزائر، يأخذ مجباها لنفسه. عادة قديمة أجراها السلطان أحمد شنورازة. ويسمون الخطيب هنديجري " بفتح الهاء وسكون النون وكسر الدال وياء مد وجيم مفتوح وراء وياء ". ويسمون صاحب الديوان الفاملداري " بفتح الفاء والميم والدال المهمل "، واسم صاحب الأشغال مافاكلو " بفتح الميم والكاف وضم اللام "، واسم الحاكم فتنايك " بكسر الفاء وسكون التاء المعلوة وفتح النون والف وياء آخر الحروف مفتوحة أيضاً وكاف "، واسم قائد البحر مانايك " بفتح الميم والنون والياء ". وكل من هؤلاء يسمى وزيراً. ولا سجن عندهم بتلك الجزائر، إنما يحبس أرباب الجرائم في بيوت خشب، هي معدة لأمتعة التجار، ويجعل أحدهم في خشبة، كما يفعل عندنا بأسارى الروم.
● [ ذكر وصولي إلى هذه الجزائر وتنقل حالي بها ] ●
ولما وصلت إليها نزلت بجزيرة كنلوس، وهي جزيرة حسنة فيها المساجد الكثيرة. ونزلت بدار رجل من صلحائها، وأضافني بها الفقيه علي، وكان فاضلاً، له أولاد من طلبة العلم. ولقيت بها رجلاً اسمه محمد من أهل ظفار الحموض، فأضافني وقال لي: إن دخلت جزيرة المهل أمسكك الوزير بها. فإنهم لا قاضي عندهم. وكان غرضي أن أسافر منها إلى المعبر وسرنديب وبنجالة ثم إلى الصين. وكان قدومي عليها في مركب الناخوذة عمر الهنوري، وهو من الحجاج الفضلاء.
ولما وصلنا كنلوس أقام بها عشراً، ثم اكترى كندرة يسافر فيها إلى المهل، بهدية للسلطانة وزوجها، فأردت السفر معه، فقال: لا تسعك الكندرة أنت وأصحابك. فإن شئت السفر منفرداً عنهم فدونك، فأبيت ذلك، وسافر. فلعبت به الريح، وعاد إلينا بعد أربعة أيام، وقد لقي شدائد. فاعتذر لي، وعزم علي في السفر معه بأصحابي، فكنا نرحل غدوة، فننزل في وسط النهار لبعض الجزائر، ونرحل فنبيت بأخرى.
ووصلنا بعد أيام إلى إقليم التيم. وكان الكردوي يسمى بها هلالاً، فسلم علي وأضافني. وجاء إلي ومعه أربعة رجال، وقد جعل اثنان منهم، عوداً على أكتافهما، وعلقا منه أربع دجاجات، وجعل الآخران عوداً مثله، وعلقا منه نحو عشر من جوز النارجيل. فعجبت من تعظيمهم لهذا الشيء الحقير. فأخبرت أنهم صنعوه على جهة الكرامة والإجلال. ورحلنا عنهم فنزلنا في اليوم السادس بجزيرة عثمان، وهو رجل فاضل من خيار الناس، فأكرمنا وأضافنا. وفي اليوم الثامن نزلنا بجزيرة الوزير، يقال له التلمذي. وفي اليوم العاشر وصلنا إلى جزيرة المهل، حيث السلطانة وزوجها. وأرسينا بمرساها. وعادتهم أن لا ينزل أحد من المرسى إلا بإذنهم. فأذنوا لنا بالنزول، وأردت التوجه إلى بعض المساجد فمنعني الخدام الذين بالساحل، وقالوا: لا بد من الدخول إلى الوزير.
وكنت أوصيت الناخوذة أن يقول إذا سئل عني: لا أعرفه، خوفاً من إمساكهم إياي. ولم أعلم أن بعض أهل الفضول، قد كتب إليهم معرفاً بخبري، وأني كنت قاضياً بدهلي، فلما وصلت إلى الدار، وهو المشور، ونزلنا في سقائف على الباب الثالث منه، وجاء القاضي عيسى اليمني، فسلم علي، وسلمت على الوزير، وجاء الناخوذة إبراهيم بعشرة أثواب، فخدم لجهة السلطانة، ورمى بثوب منها، ثم خدم للوزير، ورمى بثوب آخر، ورمى بجميعها، وسئل عني فقال: لا أعرفه. ثم أخرجوا التنبول وماء الورد، وذلك هو الكرامة عندهم، وأنزلنا بدار، وبعث إلينا الطعام، وهو قصعة كبيرة فيها الأرز، وتدور بها صحاف فيها اللحم الخليع والدجاج والسمن والسمك. ولما كان بالغد مضيت مع الناخوذة والقاضي عيسى اليمني لزيارة زاوية في طرف الجزيرة، عمرها الشيخ الصالح نجيب، وعدنا ليلاً. وبعث الوزير إلي صبيحة تلك الليلة كسوة وضيافة، فيها الأرز والسمن والخليع وجوز النارجيل والعسل المصنوع منها، وهم يسمونه القرباني " بضم القاف وسكون الراء وفتح الباء الموحدة والف ونون وياء "، ومعنى ذلك ماء السكر. وأتوا بمائة ودعة للنفقة. وبعد عشرة أيام قدم مركب من سيلان فيه فقراء من العرب والعجم يعرفونني. فعرفوا خدام الوزير بأمري، فزاد اغتباطي. وبعث عني عند استهلال رمضان، فوجدت الأمراء والوزراء. وأحضر الطعام في موائد، يجتمع على المائدة طائفة. فأجلسني الوزير إلى جانبه، ومعه القاضي عيسى، والوزير الفاملداري ؛ والوزير عمر دهرد، ومعناه مقدم العسكر. وطعامهم الأرز والدجاج والسمن والسمك والخليع والموز المطبوخ، ويشربون بعده عسل النارجيل مخلوطاً بالأفاويه، وهو يهضم الطعام. وفي التاسع من شهر رمضان مات صهر الوزير زوج بنته، وكانت قبله عند السلطان شهاب الدين، ولم يدخل بها أحد منهما لصغرها، فردها أبوها لداره، وأعطاني دارها، وهي من أجمل الدور. واستأذنته في ضيافة الفقراء القادمين من زيارة القدم فأذن لي في ذلك، وبعث إلي خمساً من الغنم، وهي عزيزة عندهم، لأنها مجلوبة من المعبر والمليبار ومقدشو، وبعث الأرز والدجاج والسمن والأبازير. فبعثت ذلك كله إلى دار الوزير سليمان مانايك، فطبخ لي بها، فأحسن في طبخه وزاد فيه، وبعث الفرش وأواني النحاس، وأفطرنا على العادة بدار السلطانة مع الوزير. واستأذنته في حضور بعض الوزراء بتلك الضيافة، فقال لي: وأنا أحضر أيضاً، فشكرته وانصرفت إلى داري، فإذا به قد جاء، ومعه الوزراء وأرباب الدولة. فجلس في قبة خشب مرتفعة. وكان كل من يأتي من الأمراء والوزراء يسلم على الوزير، ويرمي بثوب غير مخيط، حتى اجتمع مائة ثوب أو نحوها، فأخذها الفقراء. وقدم الطعام فأكلوا، ثم قرأ القراء بالأصوات الحسان، ثم أخذوا في السماع والرقص. وأعدت النار، فكان الفقراء يدخلونها ويطأونها بالأقدام، ومنهم من يأكلها، كما تؤكل الحلواء، إلى أن خمدت.
● [ ذكر بعض إحسان الوزير إلي ] ●
ولما تمت الليلة انصرف الوزير، ومضيت معه، فمررنا ببستان للمخزن. فقال لي الوزير: هذا البستان لك، وسأعمر لك فيه داراً لسكناك. فشكرت فعله، ودعوت له. ثم بعث لي من الغد بجارية وقال لي خديمه: يقول لك الوزير: إن أعجبتك هذه فهي لك، وإلا بعثت لك جارية مرهتية، وكانت الجواري المرهتيات تعجبني، فقلت له: إنما أريد المرهتية، فبعثها لي، وكان اسمها قل استان، ومعناه زهر البستان، وكانت تعرف اللسان الفارسي فأعجبتني. وأهل تلك الجزائر لهم لسان لم أكن أعرفه، ثم بعث إلي في غد ذلك بجارية معبرية تسمى عنبري. ولما كانت اللية بعدها، جاء الوزير إلي بعد العشاء الأخيرة في نفر من أصحابه، فدخل الدار، ومعه غلامان صغيران، فسلمت عليه، وسألني عن حالي، فدعوت له وشكرته، فألقى أحد الغلامين بين يديه لقشة "بقشة" ، وهي شبه السبنية، وأخرج منها ثياب حرير، وحقاً فيه جوهر فأعطاني ذلك، وقال لي: لو بعثته لك مع الجارية، لقالت هو مالي جئت به من دار مولاي، والآن هو مالك، فأعطه إياه. فدعوت له وشكرته، وكان أهلاً للشكر، رحمه الله.
● [ ذكر تغيره وما أردته من الخروج ومقامي بعد ذلك ] ●
وكان الوزير سليمان مانايك قد بعث إلي أن أتزوج بنته، فبعثت إلى الوزير جمال الدين مستأذناً في ذلك. فعاد إلي الرسول، وقال: لم يعجبه ذلك، وهو يحب أن يزوجك بنته، إذا انقضت عدتها. فأبيت أنا ذلك، وخفت من شؤمها، لأنه مات تحتها زوجان قبل الدخول، وأصابتني أثناء ذلك حمى مرضت بها. ولا بد لكل من يدخل، تلك الجزيرة أن يحم، فقوي عزمي علىالرحلة عنها، فبعت بعض الحلي بالودع، واكتريت مركباً أسافر فيه لبنجالة. فلما ذهبت لوداع الوزير خرج إلي القاضي فقال: الوزير يقول لك: إن شئت السفر، فأعطنا ما أعطيناك وسافر. فقلت له: إن بعض الحلي اشتريت به الودع، فشأنكم وإياه. فعاد إلي فقال: يقول: إنما أعطيناك الذهب ولم نعطك الودع. فقلت له: أنا أبيعه، وآتيكم بالذهب. فبعثت إلى التجار ليشتروه مني، فأمرهم الوزير أن لا يفعلوا. وقصده بذلك كله أن لا أسافر عنه. ثم بعث إلي أحد خواصه وقال: الوزير يقول لك: أقم عندنا، ولك كل ما أحببت. فقلت في نفسي: أنا تحت حكمهم، وإن لم أقم مختاراً أقمت مضطراً، فالإقامة باختياري أولى. وقلت لرسوله: نعم، أنا أقيم معه. فعاد إليه ففرح بذلك، واستدعاني. فلما دخلت إليه قام إلي وعانقني وقال: نحن نريد قربك، وأنت تريد البعد عنا. فاعتذرت له، فقبل عذري، وقلت له: إن أردتم مقامي فأنا اشترط عليكم شروطاً. فقال: نقبلها فاشترط. فقلت له: أنا لا أستطيع المشي على قدمي، ومن عادتهم أن لا يركب أحد هناك إلا الوزير. ولقد كنت لما أعطوني الفرس فركبته، يتبعني الناس رجالاً وصبياناً، يعجبون مني حتى شكوت له. فضربت الدنقرة، وبرح في الناس أن لا يتبعني أحد، والدنقرة " بضم الدال المهمل وسكون النون وضم القاف وفتح الراء " شبه الطست من النحاس تضرب بحديدة، فيسمع لها صوت على البعد. فإذا ضربوها حينئذ يبرح في الناس بما يراد. فقال لي الوزير: إن أردت أن تركب الدولة وإلا فعندنا حصان ورمكة ، فاختر أيهما شئت. فاخترت الرمكة. فأتوني بها في تلك الساعة، وأتوني بكسوة. فقلت له: وكيف أصنع بالودع الذي اشتريته ? فقال: ابعث أحد أصحابك ليبيعه لك ببنجالة، فقلت له: على أن تبعث أنت من يعينه على ذلك. فقال: نعم. فبعث حينئذ رفيقي أبا محمد بن فرحان، وبعثوا معه رجلاً يسمى الحاج علياً، فاتفق أن هال البحر، فرموا بكل ما عندهم، حتى الزاد والماء والصاري والقربة. وأقاموا ست عشرة ليلة لا قلع لهم ولا سكان ولا غيره. ثم خرجوا إلى جزيرة سيلان، بعد جوع وعطش وشدائد وقدم علي صاحبي أبو محمد بعد سنة، وقد زار القدم، وزارها مرة ثانية معي.
● [ ذكر العيد الذي شاهدته معهم ] ●
ولما تم شهر رمضان بعث الوزير إلي بكسوة، وخرجنا إلى المصلى، وقد زينت الطريق التي يمر الوزير عليها من داره إلى المصلى، وفرشت الثياب فيها، وجعلت كتاتي الودع يمنة ويسرة. وكل من له على طريقه دار من الأمراء والكبار، قد غرس عندها النخل الصغار من النارجيل وأشجار الفوفل والموز، ومد من شجرة إلى أخرى شرائط، وعلق منها الجوز الأخضر. ويقف صاحب الدار عند بابها، فإذا مر الوزير رمى على رجليه ثوباً من الحرير أو القطن، فيأخذه عبيده مع الودع الذي يجعل على طريقه أيضاً، والوزير ماش على قدميه، وعليه فرجية مصرية من المرعز، وعمامة كبيرة، وهو متقلد فوطة حرير، وفوق رأسه أربعة شطور، وفي رجليه النعل، وجميع الناس سواه حفاة. والأبواق والأنفار والأطبال بين يديه، والعساكر أمامه وخلفه، وجميعهم يكبرون حتى أتوا المصلى، فخطب ولده بعد الصلاة. ثم أتي بمحفة فركب فيها الوزير وخدم الأمراء والوزراء، ورموا بالثياب على العادة. ولم يكن ركب في المحفة قبل ذلك، لأن ذلك لا يفعله إلا الملوك. ثم رفعه الرجال، وركبت فرسي ودخلنا القصر. فجلس بموضع مرتفع، وعنده الوزراء والأمراء، ووقف العبيد بالترسة والسيوف والعصي، ثم أتي بالطعام ثم الفوفل والتنبول، ثم أتي بصحفة صغيرة فيها الصندل المقاصري. فإذا أكلت جماعة من الناس تلطخوا بالصندل. ورأيت على بعض طعامهم يومئذ حوتاً من السردين مملوحاً غير مطبوخ، أهدي لهم من كولم، وهو في بلاد المليبار كثير. فأخذ الوزير سردينة وجعل يأكلها. وقال لي: كل منه، فإنه ليس ببلادنا. فقلت: كيف آكله وهو غير مطبوخ? فقال: إنه مطبوخ. فقلت: أنا أعرف به، فإنه ببلادي كثير.
● [ ذكر تزوجي وولايتي القضاء ] ●
وفي الثاني من شوال اتفقت مع الوزير سليمان مانايك على تزوج بنته، فبعثت إلى الوزير جمال الدين أن يكون عقد النكاح بين يديه بالقصر، فأجاب إلى ذلك، وأحضر التنبول على العادة والصندل، وحضر الناس، وأبطأ الوزير سليمان، فاستدعي، فلم يأت، ثم استدعي ثانية، فاعتذر بمرض البنت. فقال لي الوزير سراً: إن بنته امتنعت، وهي مالكة أمر نفسها. والناس قد اجتمعوا فهل لك أن تتزوج بربيبة السلطان زوجة أبيها، وهي التي ولده متزوج بنتها ? فقلت له: نعم. فاستدعى القاضي والشهود، ووقعت الشهادة، ودفع الوزير الصداق، ورفعت إلي بعد أام، فكانت من خيار النساء. وبلغ حسن معاشرتها أنها كانت إذا تزوجت عليها تطيبني وتبخر أثوابي، وهي ضاحكة، لا يظهر عليها تغير. ولما تزوجتها أكرهني الوزير على القضاء. وسبب ذلك اعتراضي على القاضي، لكونه كان يأخذ العشر من التركات، إذا قسمها على أربابها فقلت له: إنما لك أجرة تتفق بها مع الورثة، ولم يكن يحسن شيئاً، فلما وليت، اجتهدت جهدي في إقامة رسوم الشرع. وليست هنالك خصومات، كما هي ببلادنا. فأول ما غيرت من عوائد السوء مكث المطلقات في ديار المطلقين. وكانت إحداهن لا تزال في دار المطلق حتى تتزوج غيره. فحسمت علة ذلك. وأتي إلي بنحو خمسة وعشرين رجلاً ممن فعل ذلك، فضربتهم وشهرتهم بالأسواق، وأخرجت النساء عنهم، ثم اشتددت في إقامة الصلوات، وأمرت الرجال بالمبادرة إلى الأئمة والأسواق إثر صلاة الجمعة، فمن وجدوه لم يصل ضربته وشهرته. وألزمت الأئمة والمؤذنين أصحاب المرتبات المواظبة على ما هم بسبيله، وكتبت إلى جميع الجزائر بنحو ذلك وجهدت أن أكسو النساء، فلم أقدر على ذلك.
● [ ذكر قدوم الوزير عبد الله بن محمد الخضرمي ] ●
الذي نفاه السلطان شهاب الدين إلى السويد وما وقع بيني وبينه
كنت قد تزوجت ربيبته بنت زوجته، وأحببتها حباً شديداً. ولما بعث الوزير عنه، ورده إلى جزيرة المهل، بعثت له التحف، وتلقيته ومضيت معه إلى القصر فسلم على الوزير، وأنزله في دار جيدة. فكنت أزوره بها. واتفق أن اعتكفت في رمضان. فزارني جميع الناس إلا هو، وزارني الوزير جمال الدين، فدخل هو معه، بحكم الموافقة. فوقعت بيننا الوحشة. فلما خرجت من الاعتكاف شكا إلي أخوال زوجتي ربيبته أولاد الوزير جمال الدين السنجري، فإن أباهم أوصى عليهم الوزير عبد الله، وأن ما لهم باق بيده، وقد خرجوا عن حجره بحكم الشرع، وطلبوا إحضاره بمجلس الحكم، وكانت عادتي إذا بعثت عن خصم من الخصوم، أبعث له قطعة كاغد مكتوبة، فعندما يقف عليها يبادر إلى مجلس الحكم الشرعي، وإلا عاقبته، فبعثت إليه على العادة، فأغضبه ذلك، وحقدها لي، وأضمر عداوتي، ووكل من يتكلم عنه، وبلغني عنه كلام قبيح. وكانت عادة الناس من صغير وكبير أن يخدموا له كما يخدمون للوزير جمال الدين، وخدمتهم أن يوصلوا السبابة إلى الأرض، ثم يقبلونها ويضعونها على رؤوسهم. فأمرت المنادي فنادى بدار السلطان على رؤوس الأشهاد أنه من خدم للوزير عبد الله كما يخدم للوزير الكبير لزمه العقاب الشديد. وأخذت عليه أن لا يترك الناس لذلك. فزادت عداوته. وتزوجت أيضاً زوجة أخرى، بنت وزير معظم عندهم، كان جده السلطان داود حفيد السلطان أحمد شنورازة. ثم تزوجت زوجة كانت تحت السلطان شهاب الدين، وعمرت ثلاث ديار بالبستان الذي أعطانيه الوزير. وكانت الرابعة هي ربيبة الوزير عبد الله، تسكن في دارها، وهي أحبهن إلي فلما صاهرت من ذكرته، هابني الوزير وأهل الجزيرة، وتخوفوا مني لأجل ضعفهم، وسعوا بيني وبين الوزير بالنمائم، وتولى الوزير عبد الله كبر ذلك حتى تمكنت الوحشة.
● [ ذكر انفصالي عنهم وسبب ذلك ] ●
واتفق في بعض الأيام أن عبداً من عبيد السلطان الذي شكته زوجته إلى الوزير، وأعلمته أنه عند سرية من سراري السلطان يزني بها. فبعث الوزير الشهود، ودخلوا دار السرية، فوجدوا الغلام نائماً معها في فراش واحد، وحبسوهما. فلما أصبحت وعلمت بالخبر، توجهت إلى المشور، وجلست في موضع جلوسي، لم أتكلم في شي من أمرها. فخرج إلي بعض الخواص فقال: يقول لك الوزير: ألك حاجة ? فقلت: لا. وكان قصده أن أتكلم في شأن السرية والغلام. إذ كانت عادتي أن لا تقطع قضية إلى حكمت فيها. فلما وقع التغير والوحشة قصرت في ذلك. فانصرفت إلى داري بعد ذلك، وجلست بموضع الأحكام. فإذا ببعض الوزراء، فقال الوزير: يقول لك: إنه وقع البارحة كيت وكيت، لقضية السرية والغلام، فاحكم فيهما بالشرع فقلت له: هذه القضية لا ينبغي الحكم أن يكون فيها إلا بدار السلطان، فعدت إليها واجتمع الناس وأحضرت السرية والغلام، فأمرت بضربهما في الخلوة، وأطلقت سراح المرأة، وحبست الغلام. وانصرفت إلى داري، فبعث الوزير إلى جماعة من كبراء ناسه في شأن تسريح الغلام، فقلت لهم: أتشفعون في غلام زنجي يهتك حرمة مولاه ? وأنتم بالأمس خلعتم السلطان شهاب الدين وقتلتموه بسبب دخوله لدار غلام له ? وأمرت بالغلام عند ذلك، فضرب بقضبان الخيزران، وهي أشد وقعاً من السياط، وشهرته بالجزيرة، وفي عنقه حبل. فذهبوا إلى الوزير فأعلموه. فقام وقعد، واستشاط غضباً، وجمع الوزراء ووجوه العسكر، وبعث عني فجئته. وكانت عادتي أن أخدم له، فلم أخدم. وقلت: سلام عليكم. ثم قلت للحاضرين: اشهدوا علي أني قد عزلت نفسي عن القضاء لعجزي عنه. فكلمني الوزير، فصعدت وقعدت بموضع أقابله فيه، وجاوبته أغلظ جواب. وأذن مؤذن المغرب، فدخل إلى داره وهو يقول: ويقولون إني سلطان. وها أنذا طلبته لأغضب عليه، فغضب علي. وإنما كان اعتزازي عليهم بسبب سلطان الهند، لأنهم تحققوا مكانتي عنده، وإن كانوا على بعد منه، فخوفه في قلوبهم متمكن. فلما دخلنا إلى داره بعث إلي القاضي المعزول، وكان جريء اللسان، فقال لي: إن مولانا يقول لك: كيف هتكت حرمته على رؤوس الأشهاد ولم تخدم له ? فقلت له: إنما كنت أخدم له حين كان قلبي له طيباً، فلما وقع التغير تركت ذلك، وتحية المسلمين إنما هي السلام، وقد سلمت. فبعثه إلي ثانية فقال: إنما غرضك الرحيل عنا، فأعط صداقات النساء وديون الناس، وانصرف إذا شئت. فخدمت له على هذا القول، وذهبت إلى داري، فخلصت مما علي من الدين. وقد أعطاني في تلك الأيام فرش دار وجهازها من أواني نحاس وسواها. وكان يعطيني كل ما أطلبه، ويحبني ويكرمني، ولكنه غير خاطره، وتخوف مني. فلما عرف أني قد خلصت الدين وعزمت على الرحيل، ندم على ما قاله، وتلكأ في الإذن لي في الرحيل. فحلفت بالأيمان المغلظة أن لا بد من رحيلي. ونقلت ما عندي إلى مسجد على البحر، وطلقت إحدى الزوجات، وكانت إحداهن حاملاً، فجعلت لها أجلاً تسعة أشهر، إن عدت فبها، وإلا فأمرها بيدها. وحملت معي زوجتي التي كانت امرأة السلطان شهاب الدين لأسلمها لأبيها بجزيرة ملوك، وزوجتي الأولى التي بنتها أخت السلطانة. وتوافقت مع الوزير عمر دهرد، والوزير حسن قائد البحر، على أن أمضي إلى بلاد المعبر. وكان ملكها سلفي فأبى مدها بالعساكر لترجع الجزائر إلى حكمه، وأنوب أنا عنه فيها. وجعلت بيني وبينهم علامة: رفع أعلام بيض في المراكب. فإذا رأوها ثاروا في البحر. ولم أكن حدثت نفسي بهذا قط، حتى وقع ما وقع من التغير. وكان الوزير خائفاً مني يقول الناس: لا بد لهذا أن يأخذ الوزارة، إما في حياتي وإما بعد مماتي. ويكثر السؤال عن حالي، ويقول: سمعت أن ملك الهند بعث إليه الأموال ليثور بها علي. وكان يخاف من سفري لئلا آتي بالجيوش من بلاد المعبر. فبعث إلي أن أقيم حتى يجهز لي مركباً فأبيت. وشكت أخت السلطانة إليها بسفر أمها معي، فأرادت منعها فلم تقدر على ذلك. فلما رأت عزمها على السفر قالت لها: إن جميع ما عندك من الحلي هو من مال البندر، فإن كان لك شهود بأن جلال الدين وهبه لك، وإلا فرديه، وكان حلياً له خطر فردته إليهم، وأتاني الوزراء والوجوه، وأنا بالمسجد، وطلبوا مني الرجوع فقلت لهم: لولا أني حلفت لعدت. فقالوا: تذهب لى بعض علماء الجزائر ليبر قسمك وتعود. فقلت لهم: نعم: إرضاء لهم. فلما كانت الليلة التي سافرت فيها، أتيت لوداع الوزير فعانقني وبكى حتى قطرت دموعه على قدمي، وبات تلك اللية يحرس الجزيرة بنفسه خوفاً أن يثور عليه أصهاري وأصحابي. ثم سافرت ووصلت إلى جزيرة الوزير علي. فأصابت زوجتي أوجاع عظيمة، وأحبت الرجوع فطلقتها، وتركتها هنالك، وكتبت للوزير بذلك لأنها أم زوجة ولده، وطلقت التي كنت ضربت لها الأجل. وبعثت عن جارية كنت أحبها، وسرنا في تلك الجزائر من إقليم إلى إقليم.
● [ ذكر النساء ذوات الثدي الواحد ] ●
وفي بعض تلك الجزائر، رأيت امرأة لها ثدي واحد في صدرها، ولها ابنتان إحداهما كمثلها ذات ثدي واحد، والأخرى ذات ثديين، إلا أن أحدهما كبير فيه اللبن، والآخر صغير لا لبن فيه. فعجبت من شأنهن، ووصلنا إلى جزيرة من تلك الجزائر ليس بها إلا دار واحدة فيها رجل حائك له زوجة وأولاد، ونخيلات نارجيل، وقارب صغير يصطاد فيه السمك. ويسير إلى حيث أراد من الجزائر. وفي جزيرته أيضاً شجيرات موز. ولم نر فيها من طيور البر غير غرابين خرجا إلينا لما وصلنا الجزيرة وطافا بمركبنا. فغبطت والله ذلك الرجل، وودت أن لو كانت تلك الجزيرة لي، فانقطعت فيها إلى أن يأتيني اليقين. ثم وصلت إلى جزيرة ملوك، حيث المركب الذي للناخوذة إبراهيم، وهو الذي عزمت على الرحيل فيه إلى المعبر. فجاء إلي ومعه أصحابه، وأضافوني ضيافة حسنة. وكان الوزير قد كتب لي أن أعطي بهذه الجزيرة مائة وعشرين بستوا من الكودة، وهي الودع، وعشرين قدحاً من الأطوان، وهي عسل النارجيل، وعدداً معلوماً من التنبول والفوفل والسمك في كل يوم. وأقمت بهذه الجزيرة سبعين يوماً، وتزوجت بها امرأتين. وهي من أحسن الجزائر، خضرة نضرة، رأيت من عجائبها أن الغصن ينقطع من شجرها ويركز على الأرض أو الحائط فيورق ويصير شجرة. ورأيت الرمان بها لا يقتطع له ثمر بطول أيام السنة. وخاف أهل هذه الجزيرة من الناخوذة إبراهيم أن ينهبهم عند سفره، فأرادوا إمساك ما في مركبه من السلاح حتى يوم سفره، فوقعت المشاجرة بسبب ذلك، وعدنا إلى المهل، ولم ندخلها. وكتبت إلى الوزير معلماً بذلك، فكتب أن لا سبيل لأخذ السلاح. وعدنا إلى ملوك، وسافرنا منها في نصف ربيع الثاني عام خمسة وأربعين. وفي شعبان من هذه السنة توفي الوزير جمال الدين رحمه الله. وكانت السلطانة حاملاً منه، فولدت إثر وفاته، وتزوجها الوزير عبد الله. وسافرنا، ولم يكن معنا رئيس عارف. ومسافة ما بين الجزائر والمعبر ثلاثة أيام، فسرنا نحو تسعة أيام. وفي التاسع منها خرجنا إلى جزيرة سيلان، ورأينا جبل سرنديب فيها ذاهباً في السماء كأنه عمود دخان. ولما وصلناها قال البحرية: إن هذا المرسى ليس في بلاد السلطان الذي يدخل التجار إلى بلاده آمنين، إنما هذا مرسى في بلاد السلطان إيري شكروتي، وهو من العتاة المفسدين. وله مراكب تقطع البحر، فخفنا أن ننزل بمرساه. ثم اشتدت الريح فخفنا الغرق فقلت للناخوذة: نزلني على الساحل، وأنا آخذ لك الأمان من هذا السلطان، ففعل ذلك، وأنزلني بالساحل. فأتانا الكفار فقالوا: من أنتم ? فأخبرتهم أني سلف سلطان المعبر وصاحبه، جئت لزيارته. وأن الذي في هذا المركب هدية له. فذهبوا إلى سلطانهم فأعلموه بذلك، فاستدعاني فذهبت له إلى مدينة بطالة " وضبط اسمها بفتح الباء الموحدة والطاء المهمل وتشديدها "، وهي حضرته، مدينة صغيرة حسنة، عليها سور خشب، وأبراج خشب. وجميع سواحلها مملوءة بأعواد القرفة. تأتي بها السيول فتجمع بالساحل، كأنها الروابي، ويحملها أهل المعبر والمليبار دون ثمن. إلا أنهم يهدون للسلطان في مقابلة ذلك الثوب ونحوه. وبين بلاد المعبر وهذه الجزيرة مسيرة يوم وليلة. وبها أيضاً من خشب البقم كثير، ومن العود الهندي المعروف بالكلخي، إلا أنه ليس كالقماري والقاقلي ، وسنذكره.
● [ ذكر سلطان سيلان ] ●
واسمه إيري شكروتي " بفتح الهمزة وسكون الياء وكسر الراء ثم ياء وشين معجم مفتوح وكاف مثله وراء مسكنة وواو مفتوح وتاء معلوة مكسورة وياء "، وهو سلطان قوي في البحر. رأيت مرة وأنا بالمعبر، مائة مركب من مراكبه بين صغار وكبار. وصلت إلى هنالك، وكانت بالمرسى ثمانية مراكب للسلطان برسم السفر إلى اليمن، فأمر السلطان بالاستعداد، وحشد الناس لحماية أجفانه. فلما يئسوا من انتهاز الفرصة فيها، قالوا: إنا جئنا لحماية مراكب لنا تسير أيضاً إلى اليمن. ولما دخلت على هذا السلطان الكافر، قام الي وأجلسني إلى جانبه وكلمني بأحسن كلام، وقال: ينزل أصحابك على الأمان، ويكونون في ضيافتي إلى أن يسافروا. فإن سلطان المعبر، بيني وبينه الصحبة، ثم أمر بإنزالي، فأقمت عدة ثلاثة أيام في إكرام عظيم متزايد، في كل يوم. وكان يفهم اللسان الفارسي، ويعجبه ما أحدثه به عن الملوك والبلاد. ودخلت عليه يوماً وعنده جواهر كثيرة أتى بها من مغاص الجوهر الذي ببلاده، وأصحابه يميزون النفيس منها من غيره. فقال لي: هل رأيت مغاص الجوهر في البلاد التي جئت منها ? فقلت له: نعم، رأيته بجزيرة قيس، وجزيرة كش، التي لابن السواملي. فقال: سمعت بها ثم أخذت منه حبات. فقال: أيكون في تلك الجزيرة مثل هذه ? فقلت له: رأيت ما هو دونها. فأعجبه ذلك. وقال: هي لك. وقال لي: لا تستحي، واطلب مني ما شئت. فقلت له: ليس مرادي منذ وصلت هذه الجزيرة إلا زيارة القدم الكريمة، قدم آدم عليه السلام، وهم يسمونه " بابا "، ويسمون حواء " ماما ". قال: هذا هين. نبعث معك من يوصلك. فقلت: ذلك أريد. ثم قلت له: وهذا المركب الذي جئت به، يسافر آمنا إلى المعبر، وإذا عدت أنا بعثتني في مراكبك. فقال نعم. فلما ذكرت ذلك لصاحب المركب، قال لي: لا أسافر حتى تعود، ولو أقمت سنة بسببك. فأخبرت السلطان بذلك. فقال: يقيم في ضيافتي حتى تعود. فأعطاني دولة يحملها عبيده على أعناقهم، وبعث معي أربعة من الجوكية الذين عادتهم السفر كل عام إلى زيارة القدم، وثلاثة من البراهمة، وعشرة من سائر أصحابه. وخمسة عشر رجلاً يحملون الزاد. وأما الماء فهو بتلك الطريق كثير. ونزلنا ذلك اليوم على واد جزناه في معدية مصنوعة من قصب الخيزران، ثم رحلنا من هنالك إلى منار مندلي " وضبط ذلك بفتح الميم والنون وألف وراء مسكنة وميم مفتوح ونون مسكن ودال مهمل مفتوح ولام مسكور وياء "، مدينة حسنة هي آخر عمالة السلطان. أضافنا أهلها ضيافة حسنة. وضيافتهم عجول الجواميس يصطادونها بغابة هنالك. ويأتون بها أحياء، ويأتون بالأرز والسمن والحوت والدجاج واللبن. وليس بالمدينة مسلم غير رجل خراساني انقطع بسبب مرضه، فسافر معنا. ورحلنا إلى بندرسلاوات " وضبطه بفتح الباء الموحدة وسكون النون وفتح الدال المهمل وسكون الراء وفتح السين المعمل واللام والواو والف وتاء معلوة "، بلدة صغيرة. وسافرنا منها في أوعار كثيرة المياه، وبها الفيلة الكثيرة، إلا أنها لا تؤذي الزوار والغرباء. وذلك ببركة الشيخ أبي عبد الله بن خفيف رحمه الله، وهو أول من فتح هذا الطريق إلى زيارة القدم، وكان هؤلاء الكفار يمنعون المسلمين من ذلك، ويؤذونهم ولا يؤاكلونهم ولا يبايعونهم. فلما اتفق للشيخ أبي عبد الله ما ذكرنا في السفر الأول من قتل الفيلة لأصحابه، وسلامته من بينهم، وحمل الفيل له على ظهره، صار الكفار من ذلك العهد يعظمون المسلمين، ويدخلونهم دورهم، ويطعمون معهم ويطمئنون لهم بأهلهم وأولادهم. وهم إلى الآن يعظمون الشيخ المذكور أشد تعظيماً، ويسمونه الشيخ الكبير. ثم وصلنا بعد ذلك إلى مدينة كنكار " وضبط اسمها بضم الكاف الاول وفتح النون والكاف الثانية وآخره راء "، وهي حضرة السلطان الكبير بتلك البلاد، وبناؤها في خندق بين جبيلين على خور كبير يسمى بخور الياقوت، لأن الياقوت يوجد به. وبخارج هذه المدينة مسجد الشيخ عثمان الشيرازي المعروف بشاوش " بشينين معجمين بينهما واو مضموم "، وسلطان هذه المدينة وأهلها يزورونه ويعظمونه. وهو كان الدليل إلى القدم، فلما قطعت يده ورجله، صار الأدلاء أولاده وغلمانه، وسبب قطعه أنه ذبح بقرة، وحكم كفار الهنود أنه من ذبح بقرة ذبح كمثلها، أو جعل في جلدها وحرق. وكان الشيخ عثمان معظماً فقطعوا يده ورجله، وأعطوه مجبى بعض الأسواق.
● [ ذكر سلطان كنكار ] ●
وهو يعرف بالكنار " بضم الكاف وفتح النون وألف وراء "، وعنده الفيل الأبيض. ولم أر في الدنيا فيلاً أبيض سواه، يركبه في الأعياد، ويجعل على جبهته أحجار الياقوت العظيمة. واتفق له أن قام عليه أهل دولته، وسملوا عينيه، وولوا ولده وهو هنالك أعمى.
● [ ذكر الياقوت ] ●
والياقوت العجيب البهرمان إنما يكون بهذه البلدة. فمنه ما يخرج من الخور، وهو عزيز عندهم، ومنه ما يحفر عنه. وفي جزيرة سيلان يوجد الياقوت في جميع مواضعها، وهي متملكة. فيشتري الإنسان القطعة منها، ويحفر عن الياقوت، فيجد أحجاراً بيضاء مشعبة، وهي التي يتكون الياقوت في أجوافها، فيعطيها الحكاكين، فيحكونها حتى تنفلق عن أحجار الياقوت. فمنه الأحمر ومنه الأصفر ومنه الارزق ويسمونه النيلم " بفتح النون واللام وسكون الياء آخر الحروف "، وعادتهم أن ما بلغ ثمنه من أحجار الياقوت إلى مائة فنم " بفتح الفاء والنون " فهو للسلطان، يعطي ثمنه ويأخذه. وما نقص عن تلك القيمة فهو لأصحابه. وصرف مائة فنم ستة دنانير من الذهب. وجميع النساء بجزيرة سيلان لهن القلائد من الياقوت الملون، ويجعلنه في أيديهن وأرجلهن عوضاً من الأسورة والخلاخيل. وجواري السلطان يصنعن منه شبكة يجعلنها على رؤوسهن. ولقد رأيت على جبهة الفيل الأبيض سبعة أحجار منه. كل حجر أعظم من بيضة الدجاج. ورأيت عند السلطان أيري شكروتي سكرجة على مقدار الكف من الياقوت، فيها دهن العود. فجعلت أعجب منها، فقال: إن عندنا ما هو أضخم من ذلك. ثم سافرنا من كنكار فنزلنا بمغارة تعرف باسم اسطا محمود اللوري " بضم اللام "، وكان من الصالحين، واحتفر تلك المغارة في سفح جبل، عند خور صغير هنالك. ثم رحلنا عنها ونزلنا بالخور المعروف بخور بوزنه " بالباء الموحدة وواو وزاي ونون وهاء "، وبوزنه هي القرود.
● [ ذكر القرود ] ●
والقرود بتلك الجبال كثيرة جداً، وهي سود الألوان، لها أذناب طوال. ولذكورها لحى كما هي للآدميين. وأخبرني الشيخ عثمان وولده وسواهما أن هذه القرود لها مقدم تتبعه كأنه سلطان، يشد على رأسه عصابة من أوراق الأشجار، يتوكأ على عصا، ويكون عن يمينه ويساره أربعة من القرود ولها عصي بأيديها. وأنه إذا جلس القرد المقدم تقف القرود الأربعة على رأسه: وتأتي أنثاه وأولاده فتقعد بين يديه كل يوم، وتأتي القرود فتقعد على بعد منه. ثم يكلمها أحد القرود الأربعة فتنصرف القرود كلها. ثم يأتي كل فرد منها بموزة أو ليمونة أو شبه ذلك، فيأكل القرد المقدم وأولاده والقرود الأربعة. وأخبرني بعض الجوكية أنه رأى القرود الأربعة بين يدي مقدمها، وهي تضرب بعض القرود بالعصي، ثم نتفت وبره بعد ضربه. وذكر لي الثقات أنه إذا ظفر قرد من هذه القرود بصبية لا تستطيع الدفاع عن نفسها جامعها. وأخبرني بعض أهل هذه الجزيرة أنه كان بداره قرد منها، فدخلت بنت له بعض البيوت، فدخل عليها، فصاحت به، فغلبها، قال: ودخلنا عليها وهو بين رجليها فقتلناه. ثم كان رحيلنا إلى خور الخيزران. ومن هذا الخور أخرج أبو عبد الله بن خفيف الياقوتتين اللتين أعطاهما لسلطان هذه الجزيرة، حسبما ذكرناه في السفر الأول. ثم رحلنا إلى موضع يعرف ببيت العجوز، وهو آخر العمارة. ثم رحلنا إلى مغارة بابا طاهر، وكان من الصالحين، ثم رحلنا إلى مغارة السبيك " بفتح السين المهمل وكسر الباء الموحدة وياء مد وكاف "، وكان السبيك من سلاطين الكفار، وانقطع للعبادة هنالك.
● [ ذكر العلق الطيار ] ●
وبهذا الموضع رأينا العلق الطيار، ويسمونه الزلو " بضم الزاي واللام "، ويكون بالأشجار والحشائش التي تقرب من الماء. فاذا قرب الإنسان منه وثب عليه. فحيثما وقع من جسده، خرج منه الدم الكثير. والناس يعدون له الليمون، يعصرونه عليه، فيسقط عنهم. ويجردون الموضع الذي يقع عليه بسكين خشب معه لذلك. ويذكر أن بعض الزوار مر بذلك الموضع فتعلقت به العلق، فأظهر الجلد، ولم يعصر عليها الليمون، فنزف دمه ومات. وكان اسمه بابا خوزي " بالخاء المعجم المضموم والزاي "، وهنالك مغارة تنسب إليه. ثم رحلنا إلى السبع مغارات، ثم إلى عقبة اسكندر، ثم مغارة الأصفهاني وعين ماء، وقلعة غير عامرة تحتها خور يعرف بغوطة كاه عارفان، وهنالك مغارة النارنج، ومغارة السلطان، وعندها دروازة الجبل أي بابه.
● [ ذكر جبل سرنديب ] ●
وهو من أعلى جبال الدنيا. رأيناه من البحر، وبيننا وبينه مسيرة تسعة. ولما صعدناه كنا نرى السحاب أسفل، قد حال بيننا وبين رؤية أسفله. وفيه كثير من الأشجار التي لا يسقط لها ورق، والأزاهير الملونة، والورد الأحمر على قدر الكف. ويزعمون أن في ذلك الورد كتابة يقرأ منها اسم الله تعالى واسم رسوله عليه الصلاة والسلام. وفي الجبل طريقان إلى القدم: أحدهما يعرف بطريق " بابا "، والآخر بطريق " ماما ". يعنون آدم وحواء عليهما السلام. فأما طريق ماما فطريق سهل، عليه يرجع الزوار إذا رجعوا. ومن مضى عليه فهو عندهم كمن لم يزر، وأما طريق بابا فصعب، وعر المرتقى. وفي أسفل الجبل حيث دروازته، مغارة تنسب أيضاً للإسكندر وعين ماء. ونحت ألأولون في الجبل شبه درج يصعد عليها، وغرزوا فيها أوتاد الحديد، وعلقوا منها السلاسل ليتمسك بها من يصعده. وهي عشر سلاسل، اثنتان في أسفل الجبل إلى حيث الدروازة، وسبع متوالية بعدها، والعاشرة هي سلسلة الشهادة. لأن الإنسان إذا وصل إليها ونظر إلى أسفل الجبل أدركه الوهم خوف السقوط. ثم إذا جاوزت هذه السلسلة، وجدت طريقاً مهملة. ومن السلسلة العاشرة إلى مغارة الخضر سبعة أميال. وهي في موضع فسيح، عندها عين ماء تنسب إليه أيضاً ملأى بالحوت، ولا يصطاده أحد. وبالقرب منها حوضان منحوتان في الحجارة عن جانبي الطريق. وبمغارة الخضر يترك الزوار ما عندهم، ويصعدون منها ميلين إلى أعلى الجبل حيث القدم.
● [ ذكر القدم ] ●
وأثر القدم الكريمة قدم أبينا آدم صلى الله عليه وسلم في صخرة سوداء، مرتفعة بموضع فسيح. وقد غاصت القدم الكريمة في الصخرة، حتى عاد موضعها منخفضاً. وطولها أحد عشر شبراً. وأتى إليها أهل الصين قديماً، فقطعوا من الصخرة موضع ألإبهام وما يليه، وجعلوه في كنيسة بمدينة الزيتون، ويقصدونها من أقصى البلاد. وفي الصخرة حيث القدم تسع حفر منحوتة، يجعل الزوار من الكفار فيها الذهب واليواقيت والجواهر. فترى الفقراء إذا وصلوا مغارة الخضر يتسابقون منها لأخذ ما بالحفر، ولم نجد نحن بها إلا يسير حجيرات وذهباً أعطيناها الدليل. والعادة أن يقيم الزوار بمغارة الخضر ثلاثة أيام يأتون فيها إلى القدم غدوة وعشياً، وكذلك فعلنا.
ولما تمت الأيام الثلاثة، عدنا على طريق ماما. فنزلنا بمغارة شيث وهو شيث ابن آدم عليهما السلام، ثم إلى خور السمك، ثم إلى قرية كرمله " بضم الكاف وسكون الراء وضم الميم "، ثم إلى قرية جبركاوان " بفتح الجيم والباء الموحدة وسكون الراء وفتح الكاف والواو وآخره نون "، ثم إلى قرية دل دينوة " بدالين مهملين مكسورين بينهما لام مسكن وياء مد ونون مفتوح وواو مفتوح وتاء تأنيث "، ثم إلى قرية آت قلنجة " بهمزة مفتوحة وتاء مثناة مسكنة وقاف ولام مفتوحتين ونون مسكن وجيم مفتوح "، وهنالك " كان " يشتو الشيخ أبو عبد الله ابن خفيف. وكل هذه القرى والمنازل هي بالجبل. وعند أصل الجبل في هذا الطريق درخت روان، ودرخت هي " بفتح الدال المهمل والراء وسكون الخاء المعجم وتاء معلوة " وروان " بفتح الراء والواو والف ونون "، وهي شجرة عادية لا يسقط لها ورق. ولم أر من رأى ورقها ، ويعرفونها أيضاً بالماشية، لأن الناظر إليها من أعلى الجبل يراها بعيدة منه، قريبة من أسفل الجبل، والناظر إليها من أسفل الجبل يراها بعكس ذلك. ورأيت هنالك جملة من الجوكيين ملازمين أسفل الجبل ينتظرون سقوط ورقها، وهي بحيث لا يمكن التوصل إليها ألبتة. ولهم أكاذيب في شأنها، من جملتها أن من أكل من أوراقها عاد له الشباب إن كان شيخاً. وذلك باطل. وتحت هذا الجبل الخور الذي يخرج منه الياقوت، وماؤه يظهر في رأي العين شديد الزرقة.
ورحلنا من هنالك يومين إلى مدينة دينور " وضبط اسمها بدال مهمل مكسور وياء مد ونون وواو مفتوحين وراء "، مدينة عظيمة على البحر، يسكنها التجار. وبها الصنم المعروف بدينور، في كنيسة عظيمة، فيها نحو ألف من البراهمة والجوكية، ونحو خمسمائة من النساء بنات الهنود، ويغنين كل ليلة عند الصنم، ويرقصن. والمدينة ومجابيها وقف على الصنم. وكل من بالكنيسة ومن يرد عليها يأكلون ذلك، والصنم من ذهب على قدر الآدمي، وفي موضع العينين منه ياقوتتان عظيمتان، أخبرت أنهما تضيئان بالليل كالقنديل. ثم رحلنا إلى مدينة قالي " بالقاف وكسر اللام "، وهي صغيرة، على ستة فراسخ من دينور، وبها رجل من المسلمين، يعرف بالناخوذة إبراهيم. أضافنا بموضعه ورحلنا إلى مدينة كلنبو " بفتح الكاف واللام وسكون النون وضم الباء الموحدة وواو "، وهي من أحسن بلاد سرنديب وأكبرها، وبها يسكن الوزير حاكم البحر، جالسني، ومعه نحو خمسمائة من الحبشة. ثم رحلنا، فوصلنا بعد ثلاثة أيام إلى بطالة، وقد تقدم ذكرها، ودخلنا إلى سلطانها الذي تقدم ذكره، ووجدت الناخوذة إبراهيم في انتظاري، فسافرنا بقصد بلاد المعبر. وقويت الريح، وكاد الماء يدخل في المركب، ولم يكن لنا رئيس عارف. ثم وصلنا إلى حجارة، كاد المركب ينكسر فيها. ثم دخلنا بحراً قصيراً. فتجلس المركب، ورأينا الموت عياناً، ورمى الناس بما معهم، وتوادعوا، وقطعنا صاري المركب، فرمينا به. وصنع البحرية معدية من الخشب. وكان بيننا وبين البحر فرسخان. فأردت أن أنزل في المعدية. وكان لي جاريتان وصاحبان من أصحابي. فقالا: أتنزل وتتركنا ? فآثرتهما على نفسي، وقلت انزلا أنتما والجارية التي أحبها. فقالت الجارية: إني أحسن السباحة، فأتعلق بحبل المعدية، وأعوم معهم. فنزل رفيقاي، وأحدهما محمد بن فرحان التوزري، والآخر رجل مصري، والجارية معهم، والأخرى تعوم. وربط البحرية في المعدية حبالاً وسبحوا بها. وجعلت معهم ما عز علي من المتاع والجواهر والعنبر، فوصلوا إلى البر سالمين، لأن الريح كانت تساعدهم. وأقمت بالمركب، ونزل صاحبه إلى البر على الدفة. وشرع البحرية في عمل أربع من المعادي. فجاء الليل قبل تمامها، ودخل معنا الماء، فصعدت إلى المؤخر، وأقمت به حتى الصباح. وحينئذ جاء إلينا بعض الكفار في قارب لهم، ونزلنا معهم إلى الساحل ببلاد المعبر، فأعلمناهم أنا من أصحاب سلطانهم، وهم تحت ذمته، فكتبوا إليه بذلك. وهو على مسيرة يومين في الغزو، كتبت أنا إليه بما اتفق علي، وأدخلنا أولئك الكفار إلى غيضة عظيمة، فأتونا بفاكهة تشبه البطيخ تثمرها، شجرة المقل. وفي داخلها شبه القطن، فيه عسلية يستخرجونها، ويصنعون منها حلواء يسمونها التل، وهي تشبه السكر. وأتوا بسمك طيب. وأقمنا ثلاثة أيام. ثم وصل من جهة السلطان أمير يعرف بقمر الدين معه جماعة من فرسان ورجال، وجاءوا بالدولة وبعشرة خيول، فركبت وركب أصحابي وصاحب المركب وإحدى الجاريتين، وحملت الثانية في الدولة، ووصلنا إلى حصن هركاتو " وضبط اسمه بفتح الهاء وسكون الراء وفتح الكاف والف وتاء معلوة مضمومة وواو "، وبتنا. وتركت فيه الجواري وبعض الغلمان والأصحاب، ووصلنا في اليوم الثاني إلى محلة السلطان.
● [ ذكر سلطان بلاد المعبر ] ●
هو غياث الدين الدامغاني، وكان في أول أمره فارساً من فرسان الملك مجير ابن أبي الرجا، أحد خدام السلطان محمد، ثم خدم الأمير حاجي ابن السيد السلطان جلال الدين، ثم ولي الملك، وكان يدعى سراج الدين قبله. فلما ولي تسمى غياث الدين. وكانت بلاد المعبر تحت حكم السلطان محمد ملك دهلي، ثم ثار بها صهري الشريف جلال الدين أحسن شاه، وملك بها خمسة أعوام، ثم قتل، وولي أحد أمرائه وهو علاء الدين أديجي " بضم الهمزة وفتح الدال المهمل وسكون الياء آخر الحروف وكسر الجيم "، فملك سنة. ثم خرج إلى غزو الكفار فأخذ لهم أموالاً كثيرة وغنائم واسعة، وعاد إلى بلاده. وغزاهم في السنة الثانية، فهزمهم وقتل منهم مقتلة عظيمة. واتفق يوم قتله لهم أن رفع المغفر عن رأسه ليشرب، فأصابه سهم غرب، فمات من حينه. فولوا صهره قطب الدين. ثم لم يحمدوا سيرته فقتلوه بعد أربعين يوماً. وولي بعده السلطان غياث الدين، وتزوج بنت السلطان الشريف جلال الدين التي كنت متزوجاً أختها بدهلي.
رحلات إبن بطوطة
الجزء الثانى
منتدى توتة وحدوتة - البوابة